رغم التباس تعريفها، وتعدد مستويات فهمها، وتأويل مفهومها اللغوي والفلسفي، إلا أن الثقافة من وجهة نظري، هي سلوك وليس معرفة، سلوك قائم على إرث من العادات مع ما تقدمه الحياة من مكتسبات تقررها الظروف العامة، من هنا صارت للشعوب ثقافات متعددة، تتلاقح فيما بينها من أجل إتمام المسيرة البشرية.
أتأمل ثقافتنا اليومية نحن أبناء العراق، أجدها ثقافة استفزازية، متأزمة، خائفة، ونفعية بامتياز، في العراق، انت حاكم أو محكوم، بعبارة أخرى، انت مُسلّب أو سَلّاب، لا فرق، فالأثنين خرجا من رحم هذا المجتمع الذي لا يعرف “ساسه من راسه” كما يقال في الدارج، فقبل عام 1914، كان هذا البلد مسخا يتحرك بفرمانات عثمانية، تنخر في كواليسها، كل أنواع الفساد السلطاني والطائفي، حتى سقطت هذه الإمبراطورية لقمة سائغة، أمام أساطيل وطائرات ومدافع بريطانيا وفرنسا، فتقسمت، وتقسمنا معها شذرا مذرا، فصرنا بعد سبع سنوات (1921) تحت وصاية العم بيرسي كوكس، الرمز الإمبريالي الكولينالي البريطاني الرشيق، وصرنا كمن يقول: “لا حظت برجيلها، ولا خذت سيد علي” فأسسنا وطنا وثقافة” نفعية، “لوكَية” خائفة من الحاكم القوي، متشظية بين الولاء للإسلام المتمثل بالإمبراطورية الميتة، وولاء لــ “أبو ناجي” المستعمر البريطاني الأنيق، وانقسم المجتمع، بين من يؤيد لبس العمّة العثمانية، او لبس الطربوش التركي الحديث، حتى تفتق ذهن الملك فيصل الأول، على تصميم السِدارة الفيصلية، المقتبسة من قبعة هنكارية او بلغارية، آخر من لبسها بإتقان المدمن الفذ، قراء المقام العراقي، ومنهم الراحل يوسف عمر، الذي غنى قصيدة ملا معروف الكرخي “داود اللمبجي” الشهيرة، التي يرثي فيها واحد من أشهر قواويد بغداد.
كانت “العلوية” مس بيل مثلا، تجرّ خلفها أينما ذهبت، حفنة “عُكَل” من شيوخ التسعين، و “طرابيش” ترقص تحتها شوارب غليظة، ومعهم كوكبة من الشعراء، وكلهم يشهقون بكلمات المديح والتملق، الذي صار سِمة تؤشر لعلاقة الحاكم والمحكوم في العراق، والى اليوم.
الحاكم العراقي يأتي ناعما، هادئا، وطنيا إذا شئت، يتلفت حوله خوف طعنة طامح، أو غدر شريك ثوري، يلبد في قاعات القصر الجمهوري، المحاط بالدبابات الوطنية، التي “تحميه من شعبيه” بدل من أن “تحمي شعبه” ثم، تبدأ الوفود بزيارته لمباركته أولا، ولتقديم فروض الطاعة والولاء، وتبدأ حفلات “الهوسات” الموزونة بميزان التملق والتزلف، بسبب الخوف الأزلي من السلطة، فهذه الأرض، ومذ فجر الوجدان عليها، الخائفون لا يعرفون بأن حاكمهم خائف أكثر منهم، فهو يحكم بلدا، لم يمت حاكم فيه حتف نفسه الا ما ندر، فيتبادل الطرفان الخوف، ولا أحد يدري من يخاف ممن؟ وتستمر هذه اللعبة.
في آخر الليل، ينظر الحاكم الى المرآة، وفي ذهنه، صدى صرخة شاعر القبيلة أو الحزب السياسي -لا فرق-: “قل ما شئت لا ما شاءت الأقدار فأنت أنت الواحد القهار” هكذا يتضخم هذا الحاكم الذي كان نهار اليوم خائفا، ويتوهم أن حب “المهوسجية” من موظفين ومستشارين متملقين وشيوخ خائفين وشعراء “كلاوجية”، هو حب حقيقي، وهذا يعطيه الحق في غزو البلدان، وافتعال الحروب، أو السرقة والفساد المغلف بسولفين القانون “الذي كتبه هو” فيصنع المؤتمرات الوهمية، يدخلها فاتحا وراعيا، وهو يمشي مثل طاووس متبختر، بأوسمة وهمية من التنك المطلي بالذهب ودماء الضحايا من أولاد الخايبة، هذه الثقافات التي ورثناها لم تتغيّر، ولن، فالحاكم عندنا، اسمه القائم باسم الله، القاتل باسم الله، السارق باسم الله، ثم المقتول باسم الله، لذلك ترى ان حكام هذا البلد وشعبه لن يهنؤوا بعيش، ما دمنا نهوس جبنا وخوفا وخيانة.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *