أغلب‭ ‬الظن‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬رأيتهم‭ ‬البارحة‭ ‬عشاءً‭ ‬وهم‭ ‬يفتتحون‭ ‬باب‭ ‬الزقاق‭ ‬بمشية‭ ‬بطيئة‭ ‬تتلفت‭ ‬صوب‭ ‬الجهتين‭ ‬بحذر‭ ‬وريبة‭ ‬تكاد‭ ‬تصيح‭ ‬خذوني‭ .‬

ثمة‭ ‬تبدل‭ ‬قليل‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬جانبه‭ ‬الصوتي‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬لوّن‭ ‬مؤذن‭ ‬المسجد‭ ‬المرتفع‭ ‬فوق‭ ‬تلة‭ ‬في‭ ‬الجوار‭ ‬،‭ ‬أذان‭ ‬الفجر‭ ‬بمقامين‭ ‬أساسيين‭ ‬وزحفٍ‭ ‬بسيط‭ ‬ساح‭ ‬بعلة‭ ‬التطريب‭ ‬والتنغيم‭ ‬المفرط‭ .‬

شاحنة‭ ‬صندوقية‭ ‬سوداء‭ ‬تشبه‭ ‬سيارة‭ ‬نقل‭ ‬الموتى‭ ‬توقفت‭ ‬ببطء‭ ‬شديد‭ ‬أمام‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬يطل‭ ‬بابها‭ ‬الصدىء‭ ‬على‭ ‬وحشة‭ ‬الشارع‭ ‬وحفيف‭ ‬شجر‭ ‬أيلول‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬الآن‭ ‬رقصة‭ ‬وداع‭ ‬مدهشة‭ .‬

البارحة‭ ‬كان‭ ‬الأربعة‭ ‬عراة‭ ‬الوجه‭ ‬،‭ ‬لكنهم‭ ‬الليلة‭ ‬تغطوا‭ ‬بقناع‭ ‬كورونا‭ ‬الضعيفة‭ ‬البائدة‭ ‬،‭ ‬ما‭ ‬زاد‭ ‬دفتر‭ ‬الاحتمالات‭ ‬متعة‭ ‬وإثارة‭ ‬قد‭ ‬تنولد‭ ‬فوق‭ ‬عتبة‭ ‬السطر‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ . ‬

سألت‭ ‬حسونة‭ ‬الأعرج‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬نمت‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬قدم‭ ‬البناية‭ ‬العتيقة‭ ‬مثل‭ ‬زرعة‭ ‬هجينة‭ ‬عاندت‭ ‬صفحة‭ ‬الإسفلت‭ ‬ومدت‭ ‬لسانها‭ ‬كما‭ ‬ذراع‭ ‬كريم‭ ‬،‭ ‬وأغلق‭ ‬بابها‭ ‬بلفة‭ ‬سلسلة‭ ‬حديدية‭ ‬ضخمة‭ ‬وقفل‭ ‬كبير‭ . ‬ضحك‭ ‬جاري‭ ‬الأحدب‭ ‬وغادر‭ ‬المكان‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬إجاباته‭ ‬المفتوحة‭ ‬كنص‭ ‬عشوائي‭ ‬لعين‭ .‬

كان‭ ‬شباك‭ ‬غرفتي‭ ‬الصغير‭ ‬مثل‭ ‬رازونة‭ ‬بغدادية‭ ‬تطلُّ‭ ‬على‭ ‬كمال‭ ‬المنظر‭ ‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أكمن‭ ‬بزاوية‭ ‬تجعلني‭ ‬أرى‭ ‬ولا‭ ‬أُرى‭ ‬،‭ ‬مثل‭ ‬جندي‭ ‬باسل‭ ‬يتلهى‭ ‬بدبيب‭ ‬كائنات‭ ‬الأرض‭ ‬الحرام‭ .‬

‭ ‬الإشارات‭ ‬والعلامات‭ ‬كلها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذهبت‭ ‬إليه‭ ‬حدوسي‭ ‬الإبتدائية‭ ‬وظنوني‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تسقط‭ ‬يوماً‭ ‬بجب‭ ‬الإثم‭ ‬والشبهة‭ ‬والتقادم‭ .‬

نزلت‭ ‬المرأة‭ ‬أولاً‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬الصنف‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬نساء‭ ‬العراب‭ ‬الشرس‭ ‬كورليوني‭ ‬،‭ ‬وتبعها‭ ‬سائق‭ ‬الشاحنة‭ ‬السمين‭ ‬وإثنان‭ ‬هبطا‭ ‬فجأة‭ ‬من‭ ‬بطن‭ ‬الصندوق‭ ‬المستطيل‭ ‬وشرعا‭ ‬فوراً‭ ‬بإنزال‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬لفائف‭ ‬القماش‭ ‬وصناديق‭ ‬الكارتون‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬اليسير‭ ‬عليَّ‭ ‬رؤية‭ ‬التفاصيل‭ ‬كاملة‭ ‬بسبب‭ ‬النور‭ ‬المركز‭ ‬الذي‭ ‬يشع‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬عمود‭ ‬الكهرباء‭ ‬المزروع‭ ‬بباب‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬سماها‭ ‬حسونة‭ ‬بخزنة‭ ‬الذكريات‭ ‬التعيسة‭ ‬،‭ ‬ولأنني‭ ‬وقتها‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬كدر‭ ‬شديد‭ ‬ومزاج‭ ‬يشبه‭ ‬صفرة‭ ‬مقبرة‭ ‬،‭ ‬فلم‭ ‬أسأل‭ ‬صاحبي‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬المكمن‭ ‬الغامض‭ ‬والحكايات‭ ‬التي‭ ‬نسجتها‭ ‬العامة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تنزل‭ ‬عن‭ ‬مرصوف‭ ‬الشارع‭ ‬مسافة‭ ‬طولها‭ ‬رجل‭ ‬بعير‭ .‬

بدا‭ ‬الأمر‭ ‬لذيذاً‭ ‬كأنه‭ ‬ميعاد‭ ‬طيب‭ ‬مع‭ ‬سهرة‭ ‬هيتشكوكية‭ ‬مضببة‭ ‬مذهلة‭ ‬،‭ ‬لذلك‭ ‬كرعت‭ ‬كأس‭ ‬العرق‭ ‬الأول‭ ‬بشفطة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬نفس‭ ‬،‭ ‬ورميت‭ ‬سيجارتي‭ ‬أرضاً‭ ‬ودست‭ ‬عليها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنني‭ ‬أدوس‭ ‬فوق‭ ‬صرصار‭ ‬سيء‭ ‬الحظ‭ ‬خرج‭ ‬تواً‭ ‬من‭ ‬فتحة‭ ‬المجرى‭ ‬الدفين‭ .‬

جسم‭ ‬السيارة‭ ‬أكل‭ ‬نصف‭ ‬المشهد‭ ‬لكنني‭ ‬سمعت‭ ‬بوضوح‭ ‬تلك‭ ‬الجلجلة‭ ‬المعتادة‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬سلسلة‭ ‬الحديد‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬صرير‭ ‬إنفتاح‭ ‬الباب‭ ‬وغلقه‭ ‬بعد‭ ‬إتمام‭ ‬تنزيل‭ ‬البضاعة‭ ‬المريبة‭ .‬

ثمة‭ ‬الآن‭ ‬حبل‭ ‬رفيع‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬الأصفر‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قوس‭ ‬ينبعث‭ ‬من‭ ‬الغريفة‭ ‬ويقف‭ ‬بمنتصف‭ ‬جسد‭ ‬السيارة‭ ‬كأنه‭ ‬حدبة‭ ‬أو‭ ‬نصف‭ ‬قبة‭ ‬حارسة‭ ‬لقبر‭ ‬صالحٍ‭ ‬بعيد‭ .‬

بعد‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬مفتتح‭ ‬هذه‭ ‬اللوثة‭ ‬العسيرة‭ ‬،‭ ‬بدأ‭ ‬الملل‭ ‬يتسرب‭ ‬إلى‭ ‬يقيني‭ ‬،‭ ‬وثمة‭ ‬صوت‭ ‬داخلي‭ ‬يضحك‭ ‬عليَّ‭ ‬ويقترح‭ ‬رنة‭ ‬كأس‭ ‬أخيرة‭ ‬قبل‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬السرير‭ ‬وترك‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬السخيفة‭ ‬حتى‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬مثواها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ناقة‭ ‬لي‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬خصية‭ ‬جمل‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬صوتاً‭ ‬آخر‭ ‬كان‭ ‬أشد‭ ‬وضوحاً‭ ‬وأعظم‭ ‬يقيناً‭ ‬أمرني‭ ‬بالبقاء‭ ‬راسخاً‭ ‬على‭ ‬صحو‭ ‬يشبه‭ ‬صحو‭ ‬جندي‭ ‬وحيد‭ ‬متروك‭ ‬مثل‭ ‬فزاعة‭ ‬حقل‭ ‬حنطة‭ ‬عملاق‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬نسي‭ ‬كلمة‭ ‬سر‭ ‬الليل‭ ‬وصمام‭ ‬أمان‭ ‬الخيمة‭ ‬التي‭ ‬تشخر‭ ‬في‭ ‬الجوار‭ .‬

أزحت‭ ‬الكرسي‭ ‬قليلاً‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬وعمّرتُ‭ ‬كأساً‭ ‬سمينة‭ ‬ولفافة‭ ‬تبغ‭ ‬بلدي‭ ‬عاطر‭ ‬،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬ومضة‭ ‬ورعدة‭ ‬وأنين‭ ‬ريح‭ ‬،‭ ‬أشيل‭ ‬جسدي‭ ‬الثقيل‭ ‬وأقف‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬حيلي‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬قوس‭ ‬الضوء‭ ‬الأصفر‭ ‬الداخن‭ ‬ظل‭ ‬كما‭ ‬إنولد‭ ‬أول‭ ‬رؤية‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬أثر‭ ‬لصرير‭ ‬سلسال‭ ‬أو‭ ‬عطسة‭ ‬قفل‭ ‬بائد‭ .‬

يا‭ ‬إلهي‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬آتي‭ ‬بحسونة‭ ‬الضحاك‭ ‬وأزرعه‭ ‬فوق‭ ‬كرسيّي‭ ‬الهرم‭ ‬كي‭ ‬يكمل‭ ‬مراقبة‭ ‬المشهد‭ ‬ويمنحني‭ ‬دقيقة‭ ‬لا‭ ‬تثنى‭ ‬لأفرغ‭ ‬مثانتي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفجر‭ ‬،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أبلل‭ ‬سروالي‭ ‬بدفء‭ ‬الفضيحة‭ ‬؟‭!‬

مرت‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬ساعتان‭ ‬وبعض‭ ‬واحدة‭ ‬ولم‭ ‬أسمع‭ ‬صوتاً‭ ‬آدمياً‭ ‬قد‭ ‬يعينني‭ ‬على‭ ‬فك‭ ‬هذا‭ ‬اللغز‭ ‬المتصل‭ ‬،‭ ‬بإستثناء‭ ‬أنصاف‭ ‬وأرباع‭ ‬كلمات‭ ‬تناثرت‭ ‬عند‭ ‬نزول‭ ‬الأربعة‭ ‬من‭ ‬السيارة‭ ‬،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الثلج‭ ‬الباهت‭ ‬يتهاطل‭ ‬كثيفاً‭ ‬رائقاً‭ ‬ليصنع‭ ‬لحافاً‭ ‬دافئاً‭ ‬يغطي‭ ‬الشاحنة‭ ‬ويترك‭ ‬قوس‭ ‬الضوء‭ ‬الأصفر‭ ‬الداخن‭ ‬وحيداً‭ ‬وشاهداً‭ ‬على‭ ‬ليلة‭ ‬ماطرة‭ ‬راعدة‭ ‬وامضة‭ ‬،‭ ‬فيها‭ ‬سيارة‭ ‬وأربعة‭ ‬كائنات‭ ‬ولفائف‭ ‬قماش‭ ‬معتق‭ ‬وكراتين‭ ‬مقمطة‭ ‬بلواصق‭ ‬الصنعة‭ ‬،‭ ‬وحيرة‭ ‬درويش‭ ‬نام‭ ‬ولم‭ ‬يسمع‭ ‬صرير‭ ‬سلسلة‭ ‬أو‭ ‬صفعة‭ ‬باب‭ ‬أو‭ ‬نباح‭ ‬كلب‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬ذروة‭ ‬السطر‭ ‬الأخير‭ ‬نابحاً‭ ‬هائجاً‭ ‬وأفسد‭ ‬صعود‭ ‬الحكاية‭ ‬صوب‭ ‬ذروة‭ ‬الخطف‭ ‬والذهول‭ .‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *