الشائع أنّ اللغة بضاعة السياسيين. هل تظنون ذلك؟ أنا لاأظنّ.اللغة بضاعتنا جميعاً. ليس منّا من لاتمثلُ اللغة مَعْبَراً له للتواصل مع العالم حتى لو كان أمياً لايجيد فنون القراءة والكتابة. يمكنُ أن نقبل مقولة « اللغة بضاعة السياسيين « إذا مانظرنا لنتاج السياسي؛ هنا قد تصبح اللغة بضاعته التي يوظفها لتسهيل فهم الناس لبضاعته الأصلية التي هي في مجملها سياسات وبرامج عمل ورؤى،،، إلخ.
حَذَقُ السياسي يكمنُ في كيفية عرض بضاعته أمام الجمهور وبخاصة في عالم « الديمقراطيات « حيث طريقة العرض لها الباع الأكبر في التأثير على الجمهور الناخب وهو في معظمه ممّا يمكن التلاعب بأوتار عواطفه. بهذا المفهوم قد تكون اللغة عنصراً فاعلاً بين العناصر المشكّلة لبضاعة السياسي، وحتى تكون لغة السياسي مؤثرة لابدّ من دراسةٍ ومعرفةٍ معقولة بفنون اللغة وآدابها وتاريخها.
لن يخفى على دارس تاريخ السياسة العالمية – والساسة كذلك – أنّ تراجعاً مخيفاً قد طال القدرات اللغوية للساسة. الاسباب كثيرة. هل يمكنُ أن نلتقي اليوم بسياسي يماثلُ قدرة الآباء المؤسسين الأمريكيين وبخاصة توماس جيفرسون كاتب وثيقة الاستقلال الأمريكي؟ أراد باراك أوباما ارتداء ثوب هؤلاء الآباء فكانت محاولته متحذلقة خائبة. لنقارن أيضاً بين تشرشل والساسة البريطانيين المعاصرين. لن يكون أفضل هؤلاء سوى ظلّ باهت لذلك السياسي المتحدّر من أصول كولونيالية قاسية. قد يرى بعضنا في تشرشل سياسياً مراوغاً، أو رجل دولة محتالاً، أو رئيس وزراء بريطانياً قاتلاً أيام الحرب العالمية الثانية وقبلها (كما وصفه الكاتب البريطاني طارق علي في كتاب حديث عنه)؛ لكنه يبقى أحد أعظم الكُتّاب البريطانيين. قد يكون تشرشل قتل بشراً أو ساهم في قتلهم ؛لكنه لم يقتل الانكليزية بل حافظ على مواريثها الرفيعة. سعى بوريس جونسون للتشبه بتشرشل؛ فكتب بضعة كتب أحدها تناول ميراث تشرشل. بقي جونسون ظلاً صغيراً أمام قامة تشرشل العالية؛ لكنهما تشاركا الحفاظ على حيوية اللغة الانكليزية وارستقراطيتها النخبوية رغم أنّ الكفّة تميل لصالح تشرشل كثيراً.
يبدو سياسيونا في علاقتهم مع اللغة وكأنهم متبضعون في سوق عطارة أو (علوة) خضراوات، ينتقون منها مايفيدهم وقد يزيدون المكيال في هذا الصنف أو ذاك أو هذه المفردة أو تلك. تراهم يكرّرون نفس المفردات بذات السياق الميكانيكي المنفّر وكأنهم يردّدون أنشودة الصباح الوطنية في المدارس العراقية قبل عقود من اليوم. تجري اللغة على ألسنتهم وكأنها هذرٌ سِمَتُه البشاعة.
السياسي العراقي مطحنة كلام أو مطحنة هواء، لافرق. صار الناسُ عندما يسمعون (فلاناً) من السياسيين يعرفون مسبقاً نوع المفردات التي سيستخدمها، والسياق التعبيري الذي سيجري على لسانه. لن يكون الأمر في النهاية أكثر من إستعادات لرميم القول ومكرور الكلام. حديث السياسي العراقي مقتلة للغة وأيّة مقتلة !
قد يرى البعضُ تسويغاً لتفوّق الساسة الغربيين على نظرائهم العراقيين في كون الغربيين يستندون إلى حائط صلب من التراث السياسي القديم. هذا تسويغ خاطئ: لو سألتُ – مثلاً – ماهي الوثيقة السياسية الأقدم لدى الإنكليز فسيكون الجواب كما أظنّ هو الماغنا كارتا، ولدى الامريكيين هو إعلان الاستقلال؛ في حين أنّ ملحمة كلكامش (وهي ملحمة سياسية لأنّ بطلها الأوّل كان ملكاً يحكمُ مملكة) تسبق الماغنا كارتا وإعلان الاستقلال بآلاف السنوات. أذكرُ أنني قرأتُ قبل سنوات كتاباً رائعاً عنوانه (الفكر السياسي في العراق القديم) وهو في الأصل رسالة دكتوراه قدّمها الدكتور عبد الرضا الطعان في جامعة كامبردج، وفيها نقرأ ألواناً متقدّمة من الفكر السياسي الرافديني المطعّم بشذرات من الأسطورة والفلسفة وتلاوين الحكمة البشرية. يبدو أنّ ساسة عراق مابعد 2003 يكرهون كلّ مايمتُّ إلى الفكر الرافديني بِصِلة، ولو فعلوا لشهدنا نهضة سياسية (على صعيد الفكر والعمل) تتقاطعُ تماماً مع حالة الخواء والفشل التي نعيشها في عراق مابعد 2003.
السياسيون العراقيون لايكتفون بقتل جماليات اللغة ومواضع إشراقتها؛ بل يزيدون هذا إلى جعل اللغة ميدان مباراة في الصراخ والتشنج حتى لكأنّ المستمع أو المشاهد يظنُّ بأنّ اللغة العربية نتاجُ قدرة عضلية وليست عقلية، وهذا مايدفعُ إلى تكريس القناعة بأنّ العربية لغة عنفية لاتستقيم مع لغة السياسة والمفاوضة والحلول الوسطية المقبولة.
السياسيون العراقيون يرتكبون مجزرة بحقّ اللغة العربية، يقتلونها وينفّرون الآخرين منها، وإذا كان الشاعر الراحل عبد الوهّاب البياتي يقول:
وَزَنْتُكَ ياوزّان الشِعْر
فكنتَ خفيفاً في الميزان
فإنّ كلّ الساسة العراقيين سيكونون أخفّ من وزّان (شعر) واحد.