اهداف صغيرة
حكومة الخدمة الوطنية، حكومة الاغلبية الوطنية، محاربة الفساد، القضاء على الفقر، القضاء على البطالة، وما شابهها، اهداف صغيرة او متوسطة. ولا اي واحد منها يمكن اعتباره هدفا كبيرا فضلا عن كونه مثلا اعلى مطلقا. وحسب القاعدة القرانية فان هذه الاهداف قد تكون صالحة بنفسها، وقد يمكن تحقيقها، لكنها لا يمكن ان تنتج حركة مجتمعية دائمة التقدم، ولهذا فهي سوف تتجمد ذات يوم وتفقد قدرتها وطاقتها على التحريك.
تأمل في الايات القرانية التالية: “مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا. كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا”.
تجري هذه الايات مقارنة دقيقة بين “الاهداف العاجلة”، و”الاهداف البعيدة” وتعلن ان نتيجة اقتصار السعي على الاهداف العاجلة هي الخسران والخيبة، وان نتيجة السعي على الاهداف البعيدة هي الزيادة والنمو. فالشكر قول مقترن بعمل، والعمل المشكور هو العمل الذي يؤدي الى زيادة الخير والنعم. قال تعالى: “وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين”، وقال: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”.
ولما كان “الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا”، فان من الصحيح ان يفكر محبو الاصلاح بالدعوة الى اهداف ابعد من الاهداف القريبة او المتوسطة، ويبنوا وعيا على اساس اهداف بعيدة او كبيرة، قادرة على انشاء حركة اجتماعية شاملة تضع المجتمع في سياق حراك لا يتوقف، ولا يتجمد، فيما يعبر عنه الان بمصطلح “التنمية المستدامة”، اي التنمية المستمرة التي لا تتوقف.
وهذا ما لا توفره الا منظومة قيم عليا تحف بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة، ومشتقة من صفات الله باعتباره المثل الاعلى المطلق، مثل العدل والعلم والرحمة والاحسان. فيكون سعي المجتمع، وهو الطرف النسبي في المعادلة، محاولة مستمرة لا تتوقف ولا تستوعب اغراضها نحو المطلق، وهو الله سبحانه وتعالى، كما يشير قوله تعالى على سبيل المثال وليس الحصر:”وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ”. وهذا ما يمكن ترجمته على المستوى السياسي والعملي بفكرة “الدولة الحضارية الحديثة”. فالدولة الحضارية الحديثة عنوان عريض لسعي المجتمع الدائم نحو تحقيق الاهداف العليا البعيدة والكبيرة المشتقة من صفات الله المطلقة. وهذا سعي “مشكور” ذو عطاء لا ينفد “وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا”.
شهد العراق منذ سقوط بغداد بيد الاحتلال المغولي عام ١٢٥٨ والى تظاهرات تشرين الاحتجاجية في عام ٢٠١٩ العديد من الحركات التي اتخذت الاصلاح شعارا لها، ولكنها لم تثمر ولم تنتج، لان مفهومها للاصلاح كان محدودا، واهدافها الاصلاحية متواضعة وصغيرة، ولهذا نجد انها فشلت في نقل العراق مجتمعا ودولة نقلة حضارية جذرية وحقيقية، ترتبط بهدف كبير وتحقق الاهداف الصغيرة والمتوسطة في سياق السعي نحو هذا الهدف الكبير. وذلك لان الدولة الحضارية الحديثة تعني تحسين الخدمات بمختلف انواعها واشكالها، والمشاركة السياسية، والقضاء على الفساد، وتوفير فرص العمل، والانتاج الوفير، والعدالة في التوزيع، وغير ذلك من الاهداف العاجلة والمتوسطة، لكن المرتبطة عضويا وبرنامجيا بهدف انشاء الدولة الحضارية الحديثة.
ما احاول قوله والسعي من اجله هنا هو المساهمة على قدر طاقتي ببناء وعي سياسي اجتماعي بحجم الحاجة الكبيرة الى تحقيق اصلاح حضاري شامل يضمن الحياة الطيبة الكريمة المرفهة للانسان في العراق. ومع علمي بان هذا الامر لا يتحقق بجهد فردي محدود المساحة، لكني امل ان يفتح هذا الجهد الفردي المحدود البابَ امام تظافر جهود الافراد الواعين الاخرين لهذه المسألة بهذا العمق وبعد النظر.
يتبع