أحبّ الآثار القديمة للإمبراطوريات العظيمة التي حكمت العالم ذات يوم واغلبها كانت في بلاد الرافدين، ولعل نشأتي في مدينة تحيط بها الشواهد الاثرية الكبيرة كرّست في نفسي، ومن بعد ذلك ذاكرتي في الغربة التعلق بالآثار، إذ انَّ روايتي المبكرة المعنونة “ عندما يسخن ظهر الحوت” قبل ثلاثين عاماً، كان مسرح احداثها الغريبة في عمق معالم الاثار القديمة لنينوى.
وشاهدتُ اليوم المديرة العام لليونسكو في بغداد تبحث ملف الآثار العراقية والمساعدة في إعادة المفقود منها وصيانة المكتشفات، وسبقها وفدان حكوميان لوزارة الثقافة العراقية والوقف السني وجامعة الموصل وهيئة التراث الى بريطانيا ومتحفها والى المانيا و بعض معاهدها وجامعاتها، في سياق تعزيز فرق التنقيب البريطانية والالمانية عن جماجم وهياكل عظمية ولقى فخارية وذهبية والواح ورُقم طينية مدون عليها سير الاسلاف ومشاغل حياتهم اليومية وأوامر الملوك والعسكر والغزوات والغنائم، وما أوفرها،اذ يقال انَّ كل بيت في محيط مدينة بابل أو نينوى أو الحضر، يرقد على كنز أثري مدفون وغير مكتشف، لغنى الأرض العراقية بآثار العهود القديمة.
لكن هناك أولويات تهمّ مئات الالاف من العراقيين وتؤثر في مستقبل جيل كامل، وقد تقلبُ ما نراه مصفوفاً منسقاً اليوم بانتظام رأساً على عقب في اقرب فرصة تاريخية وما اكثرها في عراق التقلبات، وهذه الأولويات هي البحث عن جماجم ما يزيد على اثنين وعشرين الف عراقي اختطفوا بعد تحرير المدن من تنظـيم داعش وخلال ذلك أيضا، وحملوا صفة المغيبين عدة سنوات قبل أن يظهر رئيس مجلس النواب في كانون الأول الماضي ويعلن تحوّلهم الى حمل لقب المغدور بهم ،الذين فارقوا الحياة، في تصريح قاطع من مسؤول يمثل المؤسسة التشريعية السيادية. وهؤلاء الضحايا هم غير أولئك الذين أعدمهم داعش في مجزرة “سبايكر” أو في «خسفة» الموصل أو في الانبار وتكريت.
يبدو انّ أفواه ممثلي الشعب كانت مشغولة بأشياء أهم، ولم تنطق بمجرد سؤال عن الوسيلة الواجب إقرارها لإيجاد الجثث ودفنها وتعيين فرق بحث والاستعانة بمنقبين أجانب عن آثار عراقية لا تزال دماؤها ساخنة، ولا أقول إيجاد القتلة فذلك من المستحيلات فوق الكبرى.
حتى هذه الساعة، لا يوجد أيّ جهد رسمي أو غير رسمي، محلّي أو دولي في التنقيب عن جثث الآلاف لإعادتها الى أهلها ودفنها عندهم، لعل نيران الغدر ينخفض سعيرها في قلوب الامهات، والاباء، والزوجات، والأطفال. معظم القتلى كانوا عوائل كاملة مغادرة لمدن الحرب، كان يجري ايقافها عند مخارج البلدات من قوات -غامضة- وسحبها الى المجهول، حيث يجري اعدام كامل كل عائلة. هناك امرأة عراقية ابحثوا عنها في محرك “غوغل”، لا أريد الحديث عنها هنا، اخذوا تسعة أبناء لها وأعدموهم في مجاهيل البلاد. كم هذه الصور الحقيقية شبيهة بجرائم النازية الفظيعة في الهولوكوست عند الحرب العالمية الثانية، هذا هو التشبيه الصحيح والواقعي ، لعمليات القتل الجماعي واخفاء الجثث أو فنائها، وقد ارتكب النظام السابق مجزرة من ذات النوع في «الانفال