قال المفكر فرانز فانون: “كل أمة تنجب من يدفنونها بأيديهم، كما تنجب من يحررونها بأيديهم”
يبدو أننا اليوم في العراق نعيش زمن أولئك الذين يحملون معاول الهدم، ويدعون أنها أدوات التغيير. بات البعض يروج لفكرة أن التدخل الأجنبي هو السبيل الوحيد للخلاص، وأن التغيير لن يأتي إلا من خارج الحدود، وكأن الغريب الذي يقتحم أرضنا سيمنحنا الأمن والحرية والتقدم! من متى كان المحتل مخلصًا؟ من متى كان الغريب يأتي حاملًا السلام بدلاً من الدمار؟
إننا نشهد مرحلة خطيرة في تاريخ العراق، مرحلة تجرأ فيها البعض على الاعتقاد بأن المحتل، الذي لا يحمل في جعبته سوى أجنداتٍ استعمارية ومصالح شخصية، سيمنحنا الحرية. هؤلاء ينسون أو يتناسون حقيقة أن المحتل لا يحمل زهورًا، بل يحمل قيودًا. من يؤمن أن الاحتلال يحمل الحرية، كمن يصدق أن السيف يحمل الحنان.
إن الاعتقاد بأن الحل لمشاكل العراق يكمن في تدخل خارجي ليس إلا خيانة لدماء الشهداء التي سالت دفاعًا عن هذا الوطن.
أين كنا وأين أصبحنا؟ هل نسيتم ما فعله الاحتلال الأمريكي؟ أليس هو الذي دمر مؤسسات الدولة، ونهب ثرواتها، وزرع بذور الفتنة بين أبناء الشعب الواحد؟ لقد هلل له البعض في البداية، معتقدين أنه سيجلب الديمقراطية والحرية، ولكن ما الذي حصدناه؟ الاحتلال كالنار، يدعي البعض أنه ينير الطريق، ولكنه في الحقيقة لا يترك خلفه سوى رماد الوطن. العراق، بعد هذا الاحتلال، لم يعد كما كان، بل أصبح ساحة للفوضى والاقتتال والطائفية التي مزقت نسيج المجتمع، وما زالت آثار هذا الخراب ماثلة أمامنا حتى اليوم.
ما الذي يدفع البعض إلى هذا الانحراف في التفكير؟ هل نسي هؤلاء أن التدخل الأجنبي لم يكن يومًا حلًا لأزمات الدول؟ على مر التاريخ، لم يكن الاحتلال إلا مصدرًا للخراب، والدمار، والسرقة. المحتل لا يأتي ليُصلح، بل ليُحقق مصالحه الشخصية. لقد نُهبت ثروات العراق تحت راية التغيير، وأُجهضت أحلام الشعب تحت وطأة التدخلات الأجنبية. كيف يعقل أن يكون الاحتلال هو الحل لمشاكلنا، ونحن نعلم جيدًا أن من يبحث عن الخلاص في أحضان الغريب، كمن يسكب الملح على جروحه ويطلب الشفاء.
إن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع هي أن العراق لا يحتاج إلى تدخل خارجي ليعيد بناء نفسه، بل يحتاج إلى أبنائه الذين يؤمنون بقدرتهم على النهوض بوطنهم. إن الفساد الذي ينخر جسد الدولة هو نتيجة طبيعية لعقود من التدخلات الخارجية التي لا تزال تغذي الانقسامات والصراعات. ولكننا لن نُشفى من هذا المرض بالمزيد من التدخل، فالمحتل لا يسعى إلا إلى تركنا في حالة ضعف وتبعية.
الوطن لا يُبنى على ركام الكرامة، ولا يُحرّر بإرادة الغريب. من لا يملك إرادته، لا يملك مستقبله. من يريد مستقبلًا للعراق، عليه أن يؤمن بأن الحل يأتي من الداخل، من إرادة الشعب، لا من أجندات خارجية تسعى للهيمنة. يجب أن نكون نحن من يقود التغيير، نحن من يواجه الفساد، ونبني دولتنا على أساس الإرادة الوطنية الحرة، لا أن ننتظر من الغريب أن يُملي علينا شروطه، ويُحدد لنا مصيرنا.
لقد علّمنا التاريخ، وعلمتنا التجارب، أن من يُراهن على المحتل لن يجني إلا الخراب. المحتل لا يعيد بناء الأوطان، بل يخلق منها أشباه دول، دولًا لا تنهض ولا تستقل. وما العراق بعد الاحتلال الأمريكي إلا خير شاهد على ذلك. لن نعيد تلك الأخطاء، ولن نسلم مصيرنا لأعداء الوطن.