في هذا الاسم يتخفى حرف “الراء”، وأنت ألثغ، لثغة تفيض جمالاً كابتسامة فتاة حسناء. ربما اختار الله أن يمازحك بحب، فأحاطك بمفردات تملؤها “الراء”: الكرامة، الرفعة، الصواريخ، العرب، بيروت، إيران، وحتى العدو الذي آليتَ ألا تتركه دون إزعاج لأكثر من أربعين عاماً.
لكن رغم ذلك، يا من يشبه جده أمير المؤمنين (عليه السلام)، كنتَ تتحدث ببلاغة من يمتلك خمسين حرفاً. صوتك كان يقسم الصمت كما تقطع السكين المنديل، وكل خطاب منك كان بمثابة موت مسموع في أرجاء مستوطنات الأعداء المرتعدين وهم يترجمون كلماتك بوجل.
لأربعين عاماً كنتَ صداعاً مزعجاً لهؤلاء الأعداء، الذين وقف معهم العالم كله، وأنت تطعم الموت بأعزائك، بأبنائك، برفاقك، وبجنودك في أزقة الجنوب التي لم تمتلك الكثير إلا الكرامة والعزيمة. اللبناني الوحيد الذي لم تُلطّف لهجته حدّة رسائله.
منذ أن جاءنا خبر رحيلك، وأنا أراك محظوظاً يا أبا هادي. كم هو نادر أن يحظى شخص بما حظيت به، أن يقاتل عدوه لأربعة عقود، ويظلّ مؤثراً، ليكتب اسمه بين أبطال لن يُمحى ذكرهم بسهولة. ثم تمدّ سجادة صلاتك، تضع جبهتك الكريمة على تراب كربلاء، وتبكي على الحسين (عليه السلام) في محرّم، وتختم حياتك بالشهادة، النهاية التي طالما رغبتَ بها منذ كانت لحيتك سوداء حتى بياضها، دون أن تتعب يدك من حمل السلاح، ولا روحك من القيادة.
في هذا الزمان، زمن “البلى” و”لبيك” أمام الأعداء، كانت “لاؤك” صارمةً على مسامعهم. كنتَ حائطاً منيعاً يكشف تباين الألوان في جدار مريض، رفضتَ الانحناء أمامه.
يا كبير الرافضة، يا ابن الجبل الشامخ، ويا دمعة الطف الخالدة، كربلاء لم تبتعد عنك يوماً، ولا فرق بين من حلّ عمامته في خيمة الحسين (عليه السلام) أو في أنفاق الضاحية. السهم الذي أطلقه الطغاة منذ القديم ما زال يسري، لكنهم لا يدركون علاقتنا بالموت. نحن نرى الخسارة الآنية فوزاً عظيماً وأخلاقياً، مثلما فاز جدك بأعظم انتصار رغم خسارته العسكرية.
لقد خالفتَ كل المعادلات. كنتَ شهيداً مظلوماً وقائداً منتصراً في آنٍ واحد. أطعمْتَهم الهزيمة مراراً، ولم تترك لهم مجالاً للانتصار. كنتَ الرافضي كما يجب أن يكون، كالذو الفقار الذي يشقّ مرحباً نصفين. وعباءتك كانت تستر عورة العرب، حين وقفتَ مع غرّة هاشم في وجه من جاؤوا لابتلاع البلدان وقتل الأبرياء.
يا من أضاف الله اسمه إلى اسمك، يا حاء الحسين وسين السؤال، النون الذي لا يجف. سيتلقاك نبيك وآل بيتك بالبردة، وستشرب من يد جدتك الزهراء في جنان الخلد. ستجد نفسك بين الأبطال الخالدين، من مالك الأشتر إلى أبو باقر وأبو تقوى، هؤلاء الذين نسيتهم كتب التاريخ لكن حفرت أسماؤهم في القلوب.
عشتَ جبلاً ورحلتَ رافضاً، وسلامٌ على كل لحظة من حياتك، وعلى كل كلمة نطقتها فأرعبت قلوبهم، وعلى كل صاروخ أطلقته ليضيء سماءهم.
سلام عليك منذ أول صرخة لك في الدنيا حتى آخر لحظة من حياتك. ونسأل الله أن يشفع لك لنا يوم نلقاك على حوض الكوثر. سنبقى نذكرك بعيون دامعة وقلوب مشتعلة، ولكننا نعلم أنك لن تغيّر موقفك، حتى لو اجتمع شياطين الأرض.
اذهب إلى الفردوس يا ابن الزهراء، فقد أتممت واجبك بكل وفاء.
يا آخر الرافضة الكبار، نحن امتداد لك، وشكراً لك على كل شيء.