تلاشى كل أمل لديها بأن ابنتها سوف تعود ، وكلما مرت الساعات ازداد خوفها وهلعها ، حتى اذا جاء المساء وساد الظلام فقدت قدرتها على الوقوف على قدميها ، وطاردها هاجس من أعماقها بأن ابنتها خطفت وربما أغتصبت وربما قتلت .

ووقف زوجها غير بعيد يحاول أن يهدئها قائلا :
– صبرا يا امرأة ، لعل زحام الطريق هو الذي أخرها .
تمتمت صارخة :
– أي زحام وأي طريق ، لقد ضاعت ابنتنا .
– لا تقولي ذلك ، ابنتنا عاقلة وذكية ، وأراهن أنها سوف تعود .
– أقسم أنها إذا عادت فلن تذهب الى الجامعة بعد اليوم .
– لا بأس ، اهدأي فحسب .
– كيف أهدأ يا رجل والساعة تقترب من التاسعة ؟ قلبي ينبئني بأنه حدث لها حادث .
– أنت تهذين ولا شك .
ليس حلما ما ترى ، هاهي تفقد ابنتها ، ثمرتها الوحيدة في الحياة ، فهيهات أن يكون للحياة طعم أو مذاق .
يا له من شرخ هدم بنيان أسرة ليهدر معه دم فتاة في مقتبل العمر ، انها طعنة لم يحسب لها حساب ، وفاجعة لا تشبهها فاجعة .
ليس لها من عزاء ، وليس من ثمة شفاء لجروحها ، لقد ماتت كأم ومات معها كل حلم وكل طموح
ما تزال الريح تعصف في ليلة شتائية باردة ، وفلذة كبدها مفقودة ضائعة ، ربما هي في العراء جثة ممزقة لا غطاء يسترها ، في ميتة يرثى لها ، بل في اغتيال بشع أبشع مما يوصف ، وتساءلت مع نفسها : من يفعل ذلك من ؟ ولماذا ؟
أما الأب فهو خائف أكثر منها وهذا الخوف يطارده منذ العصر ، ان ابنته لم تتأخر يوما عن موعدها ، فأي حادث حدث لها اليوم ؟
وأدرك ببصيرته أن ثمة مكروه وقع لأبنته ، غير أنه حاول أن يكتم مشاعره أمام امرأته .
مضى الوقت ثقيلا وهما في دوامة الإنتظار ، فأجهشت المرأة بالبكاء صارخة :
– افعل شيئا يا رجل .. لا تقف قبالتي هكذا .
– ما الذي يمكن أن أفعله في هذه الساعة ؟
– اخرج وابحث عن ابنتك .
فصرخ بغير وعي :
– أين ؟ أين ؟ ليل بغداد لم يعد آمنا ، هل تفهمين يا امرأة ؟ انه لا أحد يغادر داره في الليل ، فأين تريدين أن أذهب ؟
وعقب مع نفسه قائلا وهو يجثو على الأرض : لقد قضي الأمر . وراح يذرف الدموع مناجيا نفسه من جديد : لقد فقدناها ، ليس من ثمة أمل .. لقد اختفت كما يختفي الآخرون كل يوم .
وتقدم نحو امرأته وهو يحاول أن ينقذها مما هي فيه ، باسطا اليها يده قائلا :
– انهضي يا امرأة من الأرض واجلسي على السرير .
– دعني وشأني .
ورفعت صوتها على حين غرة كالمخبولة :
– أين أنت الآن يا ابنتي ؟
– ستقتلين نفسك .
– ألم أقتل بعد ؟
– حسبي الله .. يا لها من ليلة .
واختنقت عبراته ، لقد جرح الرجل جرحا بالغا ، ورغم أنه حاول أن يقاوم مخاوفه غير أن انتصاف الليل أكد له بأن ابنته لن تعود وأنها أضحت ضحية الأحداث الساخنة التي تعصف بالوطن .. أية مأساة بل أية لعنة !
أي منزلق خطير يودي بحياة الناس ؟ وأية فضيحة للأسرة حينما تخرج المرأة من دارها فلا تعود اليه ، ليس باختيار منها ولكن بفعل فاعل مجهول ، هكذا هو وأد الشرف .
ولم يجد الرجل بدا من أن يجلس الى جوار امراته مخاطبا اياها بود وحنان :
– هذا قدرنا والأمر ليس بيدنا .. ألست مؤمنة يا امرأة ؟
– لقد انتهيت .
– ربما يأتينا الصباح بخبر سار .
– لا ..لا أظن
– ارفعي يدك الى السماء .
– ضاعت ابنتنا يا رجل ، لا جدوى من كل شيء .
– لا تفقدي ايمانك .
– ابنتنا ماتت ، ألا تفهم ؟
– سأرفع يدي وحدي بالدعاء .
خيم الصمت والظلام على أرجاء الدار ، والمرأة مستلقية على الأرض كجثة هامدة ، بينما راح صوت الرجل يرتفع بالدعاء رغم أن مشاعره تؤكد له بأن ابنته حدث لها حادث أليم ، وأنها لن تعود الى الدار من جديد ، لقد قضي الأمر .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *