أستميح القراء عذراً عن توقفي المؤقت اليوم عن مواصلة سلسلة الحلقات التي بدأتها قبل ثلاث أيام بخصوص الحرب الثقافية وما يسمى بمجتمع (الميم) بسبب حلول الذكرى الرابعة والعشرين للنكسة العراقية. نعم أن ما حصل في مثل هذا اليوم قبل 33 سنة لا يمكن وصفه الا بالنكسة. تمر كل الشعوب بخاصة ذات التاريخ الطويل كالعراق، بمراحل صعود وأنتكاس عبر هذا التاريخ الممتد لآلاف السنين. لا شك في أن نشوء وأزدهار الحضارات السومرية والآشورية والأكدية والبابلية والعباسية كانت محطات مشرقة في تاربخ العراق. ولا شك أن غزو الأسكندر المقدوني للعراق وأسقاط آخر معالم حضارة وادي الرافدين،وغزو المغول لبغداد ومن بعدهم الفرس والعثمانيين كانت من أبرز النكسات التي عرفها العراقيون عبر تاريخهم القديم والوسيط. ويمثل غزو الكويت برأيي أبرز النكسات التي عانى العراقيون منها (ومازالوا) في تاريخهم الحديث. وعلى الرغم من أن نكسات التاريخ لا تأتي فجأة وتسبقها مقدمات وظروف أهمها فساد السلطة الحاكمة ووهنها لكن هناك عامل رئيس مشترك في كل النكسات،على ما يبدو، وهو عدم الأستفادة من دروس التاريخ وهو بالضبط ما يحصل اليوم عبر صيغ وأدوات مختلفة.
لا زلت أذكر ذلك الخميس الملتهب من صيف عام 1990 حينما كنت في سيارتي فسمعت المذيع الراحل مقداد مراد وهو يهتف الله أكبر..الله أكبر “مبشراً” العراقيين بأكتمال أحتلال الكويت وعودة الفرع الى الأصل. فعدت مسرعاً للبيت ممتلئاً بالزهو وشعور الثأر(المريح) بعد أن تمادت الكويت في أستفزاز العراق. والحق فأن كل الشباب الذين صادفتهم آنذاك كان لديهم نفس الشعور. شاهدت والدي رحمه الله مستلقياً على “الكرويته” وبيده الراديو الترانزستور الذي لا يفارقه فنظر لي نظرة المستغرب من حبوري،والمندهش من أندفاعي وغروري قائلاً “لا تفرح فهذا الذي حصل ستكون له عواقب لا يدركها الصغار مثلك”!! وما هي الا سنوات قليلة حتى أدركت صحة كلام والدي وأنا أجد نفسي مضطراً أن أعمل(على سيارتي) سائقاً للتكسي ليلاً وأنا مقدم ركن في الجيش،وطالب دكتوراه! ثم تأكدت من وقوع الكارثة التي توقعها أبي وأنا أرى الدبابات الأميركية بعدها بسنوات وهي تجوب شوارع بغداد مسقطةً الدولة والمجتمع وليس النظام فقط! لقد كان الدرس واضحاً أمامي:الشعبويات والعنتريات تُسقِط الدول ولا تصلح الخلل وتعمق الفشل.
اليوم،وبعد أكثر من ثلاث عقود (لاحظوا طول المدة) لا زلنا نسمع نفس “الطنبورة” وذان الحجج المنخورة،لكنها ليست من صدام هذه المرة،بل من بعض من عارضوه وأتهموه بالدكتاتورية والنزق! وعلى الطرف المقابل(الكويت) تتعالى من جديد بعض الأصوات التي تدعو للتهييج والتهريج بدلاً من العقل والأتزان.فهلّا أتعضنا من التاريخ وراجعنا الدرس بحكمة؟ جغرافياَ نحن جاران،وتاريخياً نحن متضرران أفلا يكون الهدوء بديلاً للثوران؟! ألم نكتفي من مطرقة التاريخ وسندان الجغرافيا؟
أنا هنا لا أريد أن أدخل في جدل قانوني وتاريخي عن الحدود بين البلدين فكل طرف له حججه،لكني أريد أن أؤكد حكمة التاريخ وجبرية الجغرافيا. فالخراب والدمار،لكلا الشعبين،هما البديل الوحيد لمنضدة التفاوض. وأن مشكلة بهذا الأرث التاريخي الدموي الطويل لا يمكن أن تحل بسنة أو سنتين وقد تحتاج لسنين.لكن المهم هو صدق النية وأستخدام الحكمة والروية. ولكي لا نقع مرة أخرى في حبال الشعبوية وأختطاف القرار فأن الموجودين في سدة الحكم عندنا لا يبدون مؤهلين للتفاوض عن العراق. فعدا عن عدم ثقة الشعب بهم وبنزاهتهم وبكفائتهم فأن شعبويتهم ظاهرة وأنتهازيتهم قاهرة. لقد بات ترسيم الحدود مع الكويت مادة للتسقيط بين المتنافسين ولحرف الأنظار عن الفشل الدائم لحكومات ما بعد الأحتلال. لذا فأن أخراج هذا الملف من المزايدات السياسية يبدو ملحاً الآن. أن تشكيل لجنة فنية (غير سياسية) تضم قانونيين ومهندسين ومتخصصين آخرين لمراجعة كل ملف الحدود وتمنح صلاحيات التفاوض يبدو حلاً مناسباً في مثل هذه الظروف.أذكر،مثلاً،أن العراق وأيران شكلا لجنة مشتركة لمراجعة الحدود البحرية قبل ان (يتبرع) صدام بنصف شط العرب لأيران وكانت هذه اللجنة الفنية وغير السياسية، تضم مختصين وخبراء فقط ،وتتخذ من البصرة وجزيرة السندباد تحديداً مقراً لها. فلماذا لا نلجأ لمثل هذا الحل أو سواه من حلول تبعد الملف عن المزايدات السياسية والشعبوية على طرفي الحدود؟ لماذا نجعل موضوع مصيري وأستراتيجي كالحدود خاضعاَ لمزايدات سياسيين باعوا العراق(تفصيخ)،وخربّوها وجلسوا على تل الخراب؟!