كلما توغلت في قراءة التاريخ زاد قلقي من مآلات الواقع الذي نحن فيه، الواقع الذي يشهد تغييرات كبرى على كل المستويات، تغييرات في الأعراف الاجتماعية، في الأداء والخطاب السياسيين، في آليات التخاطب بين القادة والأتباع، في طريقة ادارة الأزمات، في الاستغناء عن رأي عقلاء القوم، في انعكاسات التغييرات الدولية على نسبة تأثير الدول الفاعلة في المشهد السياسي، في صعود رموز جماهيرية من خارج المعادلة الحزبية، وغيرها كثير، تحتاج كل هذه التغييرات لمن يرصدها، يحلل عناصرها، يفهم أسبابها، يتنبأ بنتائجها، وأخيراً يبني مواقفه على أساس ذلك كله .
لكن السؤال المهم، من يفعل ذلك ؟!
* النخبة السياسية!
لا أحسب ذلك، فهي على الأغلب بسيطة التفكير، محدودة الثقافة، شعبوية المنحى، لايرتقي مستوى وعيها الى الحد الذي يجعلنا نأمل منها شيئاً في هكذا أمور.
* الأكاديميون !
وهي الشريحة الأهم التي نتوقع منها فهم تلك المتغيرات، ومواكبتها، وتقديم سردية مقنعة تشكل مشروعاً يحفظ الهوية الوطنية، ويقف في قبالة السرديات الأخرى التي صارت تبنى على أساس ابتلاع من لا سردية له، ولامشروع أو هوية، إلا أن المؤسف أن هذه الشريحة المهمة تفكر بمثالية كبيرة، وهذا النمط من التفكير يمنع صاحبه عن فهم تعقيدات المشهد وحيثياته، فضلاً عن تقديم سردية تشكل الفضاء الذي يستوعب كل متناقضات اللحظة التاريخية، الشريحة الأكاديمية تعاني أيضاً من اصطفافات حزبية، لهاث خلف المصالح الشخصية الضيقة، تفكير يساري يفضي الى مخرجات لا يساعد الواقع على قبولها، من قبيل نظرية المؤامرة، والمستبد المستنير، هذه وغيرها من الأسباب تجعلنا نسمع آراءً تفتقر للعمق والنضج السياسي، ولا تشكل اضافة الى قاموس الفلسفة السياسية في المشهد العراقي.
* الاعلاميون !
اعلام الأزمات والتسريبات والضجيج والصفقات والانفعالات والاستعراضات والاسقاطات الذاتية، ولا أنسى أنه أيضاً اعلام الجميلات أو المتجملات، على ذكر الاعلام وويلاته، استحضر أني رأيتُ ذات يوم أحد أبرز الاعلاميين العراقيين، في احدى قاعات الامتحان في جامعة بغداد – كلية العلوم السياسية وهو يحاول الغش، وقد ظفرت به الأستاذة المراقبة وأخذت منه القصاصة ( الغش ) !
أتابع حساباتهم في مواقع التواصل، بحثاً عن مقال يكتبوه، أو ورقة بحثية يقدموها، كما هو حال باقي الاعلاميين في المؤسسات الرصينة، لكني دائماً ما أصطدم بواقع مزرٍ حين أقرأ ما يكتبون، من المؤكد أن هذه المعطيات لا تساعد على أن ننتظر شيئاً من هذه الشريحة الغائبة عن ممارسة دورها الحقيقي.
* مراكز الأبحاث والدراسات !
يحتاج الأمر الى تتبع وتقصي، وهو ما لم يسعفني الوقت لأفعله، لكن القدر المتيقن أن تلك المراكز تعاني من بعض المشاكل التي ذكرناها آنفاً، مثل الاصطفافات الحزبية، وأزمة الطبقة الأكاديمية، وأكيداً ضعف الإمكانات المادية، في بلدٍ لا يهتم ساسته وصناع القرار فيه بلغة الأرقام والإحصاءات ولاتبنى المواقف السياسية على أساس استطلاعات الرأي العام، والدراسات العلمية، ولذا فإن مراكز الأبحاث هي الأخرى محدودة النتاج والتأثير .
* المثقفون !
شعراء وكتاب، لا أدعي أن على هذه الشريحة أن تملك ثقافة سياسية واسعة، فأنا أدرك تماماً أن لكل شريحة اشتغالها العلمي الخاص، لكني أدّعي أن هذه الشريحة لاتعي الدور الملقى على عاتقها، في تقديري ينبغي لهذه الشريحة أن تكون في المنطقة الرمادية التي تمهد لايجاد مساحات مشتركة بين الفرقاء، لا أن تصطف مع هذا الطرف أو ذاك، مشكلة العقلية العراقية أنها متطرفة في مواقفها، ولذا دائما ما نجدها على طرفي نقيض، واذا ما أرادت أن تعيد تموضعها نراها تنتقل من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، هنا تشتد الحاجة الى خطاب عقلاني هادئ من شأنه أن يزيد من نقاط الالتقاء ويُبرز المشتركات ويتبنى المواطنة كأساس للتعايش والحوار والتفاهم بين ابناء الشعب العراقي، وهذا موجود اجمالاً لكنه لم يصل الى حد السردية، ولم ينجح في تحقيق فارق على الأرض، الأمر الذي يؤشر على ضعف الأداء لدى شريحة المثقفين وللأسف الشديد.
لستُ متشائماً، لكنني أحاول أن أكون واقعيا في توصيف اللحظة التاريخية التي نشهدها، ثمة مسار صعب ومخاض عسير، تمر به التجربة العراقية، فهم خصائص هذا المسار ومحاولة ضبط ايقاع الأحداث فيه بما يضمن تكامل التجربة ونضجها، أمر يتطلب حكمة كبيرة ودراية واسعة، فاللحظات التاريخية الحاسمة تُنجب عقوداً من الزمن، ونحن نعيش لحظة تاريخية حاسمة.
لا أعني ازمة اختيار رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة التي نشهدها هذه الأيام، بل اني اتحدث عن مطلق التجربة منذ عام ٢٠٠٣ ولغاية اليوم.
نحتاج أن تتبنى شرائح المجتمع التي ذكرناها سرديةً تستوعب كل تناقضات المشهد العراقي، وتؤدي دورها الوظيفي بصورة أفضل، وتعيش حالة تخادم فيما بينها بما يكفل نجاح السردية وتحقيق أهدافها.