حين طلبوا من الروائي جوزيه ساراماغو (نوبل 1998) توضيح رأيه حول إصراره على الانتماء إلى الحزب الشيوعي رغم التغييرات الكثيرة التي جرت في العالم في العقود الأخيرة، أجابهم: “مثلما لديّ هرمون يُنبت الشّعر في ذقني، لديّ هرمون آخر يجبرني أن أكون شيوعيا، والأمر له علاقة بسلطة قدر بيولوجي أعجز عن مقاومته”.
هل كان الشيوعيون في بلادنا خاضعين لهذا القدر البيولوجي؟ لا يمكن أن يكون الجواب بالتسليم إطلاقا، أو النفي تماما، وإنما منزلة بين المنزلتين، فالكثير منهم كانوا يؤمنون منذ البدء، بأن الأفكار ليست قالبا صُبّ في صورة وصار صنما، إنما الفكرة في كلّ زمان هي مادة أولية تُنحتُ منها المذاهب على هيئة جديدة تبعا للعصر الذي نعيش فيه. والمثل الذي يقال بهذه المناسبة شهير: وهو إن دوغما يوم السبت قد تصبح يوم الأحد هرطقة جديرة باللعن، وهكذا دواليك…
السؤال الأول الذي أريد أن أثيره هنا عن سياسة الحزب الشيوعي العراقي في السنوات التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للبلاد. هل أدّى المسؤولون في الحزب ما عليهم في هذه الحقبة المفصلية، والصعبة من تاريخ البلاد؟ وبصورة أقرب إلى التوضيح نقول هل كانت سياسة الحزب في هذه السنين منسجمة، ومتساوقة، وعلى خطّ مستوٍ واحد مع رؤيته في العقود العديدة التي سبقت، رجوعا إلى تاريخ التّأسيس الذي لا ينساه أحد؟
أكثر من أرّخ لتاريخ العراق في المئة سنة الأخيرة هو غائب طعمة فرمان. من رواية “المرتجى والمؤجل” أنقل هذا المشهد، وفيه حوار بين رفيقين عتيقين في الحزب: “دع قناعتك يا أبا إحسان لك. أو دعْني أتدفّأ فيها في لحظات الشجاعة المؤجلة، وأنتظر مثلك اللحظة الثورية التي لا نعرف في أيّ قرن تهلّ. هل تذكر كيف كنت تعظ بها، وما تزال كما أعتقد”. في أغلب روايات فرمان المكتوبة في المنفى يجد القارئ شخصَ الروائي في العمل بشحمه ولحمه، فهناك أحدهم يعيش في موسكو، حتما، ويكسب رزقه من عمله مترجِمًا، ويحنّ إلى وطنه العراق حنين النوق، وهذا ما يقرّب القصّة مما يُعرف بأدب المذكّرات، ويقلّل من الفن الروائيّ فيها. ونكمل حوار الرفيق مع صديقه: “حاولت أن تبني حياتك على خلق هذه اللحظة الثورية وتبشر الناس بها، أو سوقهم إليها ومنهم أنا ولكنها لم تهل، أو هلّت مثل ومض البرق وانطفأت وجعلت المتيّمين بها ينوحون أو يعضّون بنان الندم. أما أنا فقد يئست…”. هناك أكثر من نوع واحد من اللامسؤولية، لكن أيّا منها ليس من خصال قائل هذا الكلام، وهو نفسه صاحب رواية النخلة والجيران، الرواية التي أرّخت لفترة مهمة من نضال الحزب. سؤال ثانٍ: هل تريدون المزيد من مثل هذا الكلام المؤذي والمبثوث في الأدب العراقي، عن الصرح العظيم -أي الحزب الشيوعي العراقي- والذي لا يعرف عنه شباب اليوم شيئا؟
منضدة مجاورة
جمعتني في حانة “هوازن” جلسة مع أصدقاء قادمين من السويد والبصرة ومن كل بقاع الأرض، وعلا صوتنا في أثناء النقاش، وكان اسم الحزب حاضرا بيننا، حتما. وهنا تدخّل شابّ من المنضدة المجاورة. سأل: في أيّ بلاد من العالم صارت الشيوعية؟
ثم دار حديث معه أثبت الشابّ أنه لا يعرف شيئا عن الحزب، وكأنه كيان نشأ على كوكب الزُّهرة منذ قرون، واندثر. لا يعرف شبابنا اليوم أي شيء عن الحزب، وقد مثّل هذا الجهل بصدق الشابّ الذي التقيناه صدفة، بينما كان جالسا يفكّر، ويحلم.
يدور في هذه الأيام في مواقع التواصل منشور مفاده أن الإخوة في الحزب الشيوعي في سبيل بناء بيت جديد لهم، ويطلبون المعونة. لمن يبني الحزب بيتا إذا كان الشّباب لا يعرفون طريقهم إليه؟ وهل يحقّ لنا وصف مثل هذا المكان بالمتحف؟
شارع “دجلة” شهير في مدينة العمارة. في عطفة منه تؤدّي إلى حيّ “الحسين” الفقير، التقينا أنا والصّديق “فائق حنون” قبل سنين برجل ستّينيّ أنيق الملبس يمشي مسرعا في الصباح إلى مقرّ الحزب الشيوعي، وكان هذا يقع في شقّة متواضعة أعلى محلّ لبيع الفلافل. فتح الرجل الأنيق باب الشقة، وتناول مكنسة، وقام بتنظيف أزبال المطعم التي تركها زبائن الليلة الماضية من أمام البناية التي يقع فيها المقرّ.                                            ما أحببتُ الحزب الشيوعي العراقي مثلما أحببته في ذلك اليوم.
علينا أن نهتمّ كثيرا ببناء المتحف الذي سوف يضمّ صورة هذا الرجل ومقتنياته وكتبه، كما أنّ لديّ طلبا وحيدا أتمنى أن يحقّقه من يقوم بتصميم مقرّ الحزب الجديد، وهو أن لا يجعله معتما مثل بيوت الحزب العديدة التي زرتها، حيث النهار لم يكن بأخفّ ظلاّ من المساء، وصور الميّتين على الجدران تجعل الظّلمة تبدو للعينين مطلقة بالفعل، حتى في عزّ الظهيرة.
كم يبلغ عدد الذين سالت دماؤهم في سبيل رفعة الحزب العتيد؟ سألت أكثر من صديق شيوعي، ولم يعرف أحد منهم العدد التقريبي، لكنهم اتفقوا أخيرا على أن أكثر من عشرة آلاف “شهيد” هم ركيزة الحزب. إن الاحتكام إلى الضّمير يؤدّي إلى أن مقبرة تضمّ رفات هذا العدد الكبير من الأنفس، وكلّهم في عمر الزّهور، مثلما يقولون، تؤسس هذه الجُبانة العظيمة حتما إلى وطن جديد، تسود فيه وصايا وحِكمٌ وتعاليمُ دين جديد.
إنما تتطوّر البلدان في رأيي عندما يكون العامل فيها إنسانا حقيقيّا، لا ظلم يقع عليه ولا مسغبة، وكلّما سافرت إلى بلد أحرص على أن أزور المكان الذي يتجمّع فيه العاملون منذ الفجر طلبا للرّزق. يكفيك مشهد هذا “المسْطر” على أن تطلق حُكمك الأخير على المسؤولين في الحكومة. بعد أيام يبلغ عمر الحزب الشيوعي العراقي قرنا من الزمان، تقريبا، وكانت الفكرة الرّئيسية في أذهان من وضعوا له الحجر الأساس هي أن يغادر عاملنا وقفته اليوميّة البائسة في المسطر، يركض هنا وهناك وراء ربّ العمل من أجل أن يحصل على لقمة اليوم. وفي مراجعة لتاريخ الحزب الشيوعي نجد أن المدافعين عن حقوق الطبقة العاملة كانوا يمثلّون ما ندعوه بطبقة الأنتلجنسيا اليوم، من محامين ومهندسين وأطباء وفنانين، وكلّ من تشتهي عينك أن تراه في المجتمع. شيئا فشيئا، وعبر العقود الخمسة أو الستة الأخيرة، صارت تتآكل هذه الطبقة في الداخل، وفي الخارج؛ أقصد في درجة وعيها الاجتماعي والسياسي، وغلبت قوانين الكمّ على النوع، وأكملت الحروب التي مرّت بها البلاد إجهازها على ثقافة الفرد في العراق، وإذا بنا نحصل على أرواح أفراد هشّة لا تقدر أن تبني صفّا في رياض الأطفال، فكيف إذا كان المطلب لديك هو الوطن الحرّ، المعافى من الأمراض، والذي يعيش على تربته شعب سعيد؟
شعر غنائي
يعلم الجميع أن أخطاء الحزب ليست قليلة، ونعلم جميعا كذلك أن ليس هناك ممن أشاروا إليها بلغ المرحلة النهائية التي لا تضاهى من الشعور باللامسؤولية. في عالم الشعر الغنائي ـ الوجداني ـ حيث تهيمن العاطفة المشبوبة والمتوهجة على ذهن الشاعر، في هذا الجوّ يمكننا التّرديد مع الشاعر كزار حنتوش: “يا حزب جميع الفقراء/ أحببناك/ وأحببنا حتى أخطاءك”، لكننا في الواقع لا يمكننا التسليم بهذا الأمر، وإلاّ كان شبيها بحبّ جلد الذات. إن القيام بمراجعة رويّة لأفكار ووعود ونوايا الحزب، وطلب المشورة من أصحاب العقول الجبّارة والنفوس الطيّبة في البلاد، أكثر أهمّية في رأيي، من بناء عمارة جديدة للحزب. السؤال الثالث الذي أختم به المقال: ماذا يفيد المصاب بالعلل الفتّاكة أنه يرتدي ثيابا جديدة؟
هناك بعض الكلمات تريد أن تظلّ ذكراها ماكثة في الحياة، وتردّدها الأجيال. من هذه الكلمات شعار الحزب: “وطنٌ حرٌّ وشعبٌ سعيدٌ”، فهو يحمل في معناه بعدا نصف دينيّ، وبعدا آخر نصفَ أرضيّ. البساطة الآسرة لدى الرجل الستّيني الأنيق، القرمطيّ في الضمير -والتعبير لسعدي يوسف- وهو يحثّ خطاه إلى مقرّ الحزب، بالإضافة إلى تواضعه الصادق وإخلاصه، وغير ذلك من مقوّمات تعدّ أصيلة في شخصيّة الشيوعي تركت معنىً دينيا في شعار الحزب، وإن كان الشباب اليوم لا يعرفون شيئا عن النصف الأرضيّ من معنى الشعار، لكن نصفه الدينيّ مطبوع في عروقهم، حتما، لأن غالبيتهم هم أبناء من ساروا في هذا السبيل.
“وطنٌ حرٌّ وشعبٌ سعيدٌ”: لا يستطيع المرء أن يتصوّر كآبة العالم عندما تخلو حياتنا من هذه الحروف، كما أن الوطن يفقد من دونها معناه ويمتلئ بالعبيد. فإذا كنا جدّيين في تفكيرنا، وآمل أن نكون كذلك، وحريصين على أن نسير في درب الذين أسّسوا المشوار الأول، ولكي لا يذهب جهادهم العظيم عبثا، أدعوك يا صديقي، ويا أيها الرفيق المناضل، والصادق، والحقيقي، أن تتمعّن في الأسئلة الثلاثة الواردة، ولك مني أكثر من يدين تقدّمان العون عندما تحين ساعة العمل.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *