في ملتقى المتنبي ببغداد، وقبل الحديث عن رائحة الكتاب وعناوينه ونصوصه الغنية بالأفكار والمعلومات والعلوم، فالواقع أن المتنبي يحمل ثنائية تراثية فكرية عميقة التأثير للمهتمين بالتراث البغدادي، تتجسد ب” الكتاب ومقهى الشابندر”.
نعم لمقهى الشابندر نفحة عذبة من رائحة الماضي البغدادي، وخلطة عطاء من التراث والتاريخ والثقافة العراقية الغنية بالتجارب الإنسانية وأسماء المثابات والشخصيات، وصناع السياسة الذين يطرزون بصورهم وفعالياتهم أركان المقهى، بينما رائحة الكتاب تفوح لتختلط بشاي الهيل والسيلان، ويستنشق الرواد نكهة ملتقى المتنبي، بحلته البغدادية الجميلة الانيقة بعد اعماره والحفاظ على طرازه الأصيل.
في مدخل مقهى الشابندر الذي يتفق الجميع على أنه مقهى الثقافة والمثقفين، أو منتدى ثقافي مختلف تماما عن بقية المقاهي الاعتيادية، إذ يجلس رجل مهيوب كبير السن يدعى محمد الخشالي، صاحب المقهى، تحت ادارته فريق من الشباب العاملين بتلبية متطلبات الزبائن من مختلف الاعمار، ومن الجنسين الاناث والذكور، جميعهم من عشاق الكتاب والمقهى في شارع الثقافة،،، لفت انتباهي السدارة البغدادية التي يضعها الحاج الخشالي بجانبه، يرتديها الرجل كلما خرج من المقهى، أو أستقبل ضيوف المقهى من جنسيات خارجية. والحقيقة ما كنت أعرف سابقا تفاصيل عن ثقافة واهتمامات الحاج الخشالي، لكني هذه المرة اقتربت منه، وتحاورنا بشؤون المقهى وتاريخها وروادها وطائفة من السرد العذب عن شارع المتنبي الذي يتوسطه، فسمعت منه، تفاصيل أثارت في داخلي فضول طرحت بسببه عديد الأسئلة قبل الاصغاء لإجابات من رجل وجدته يجيد بأسلوبه الشفاف مسألة الدفاع عن أفكاره، وهو ينهل من أرشيف ذهنه البارع بالاحتفاظ بتفاصيل عميقة ومهمة، والحقيقة كانت لحظات ممتعة من أسلوب عرض يتسم بالغواية التي تشدك لمتابعة رواياته عن كل ما يطرح عليه من سؤال، وعلمت بانه يدير شؤون المقهى منذ عام 1963 ولكنها تحت إدارة أجداده حتى الجد الخامس له، وذهب الرجل الى استذكار حادثة تتعلق بعالم الاجتماع علي الوردي، ويقول ذات مرة كان جالس عنده بالمقهى، وفي لحظة نقاش بغدادي، دلف رجل الينا، وبعد تحية السلام والترحاب والمجاملة والاعجاب بالوردي، أبلغه بشراء بعض مؤلفاته، من بسطية على الأرض في شارع المتنبي، وعلى أثرها استشاط الوردي انزعاجا، متسائلا ما قيمة الكتاب الذي يترك على الأرض ليباع حاله حال الحذاء؟ وخرج على الفور وقام بشراء جميع ما متوافر من كتبه في تلك البسطية، قائلا لا خير في مؤلف يسمح بأن يهان كتابه بهذه الطريقة، فالكتاب مكانه الرفوف والحذاء مكانه الأرض.
والحقيقة أن هذا الموضوع اعتبرته درس في اخلاقيات التعامل مع الكتاب، فهو ليس بضاعة تجارية، ولا هو ورق منقوش بالحبر، انما هو هدية المؤلف العلمية لقرائه، وسفير صاحبه يتجول بين مختلف الثقافات والجغرافيات لا تحده حدود، وهو الوليد الذي يحمل أسم من عاند الوقت والجهد ليخرج كنزا علميا ومعرفيا يخدم عقول الناس. وغالبا ما يتردد السؤال علينا جميعا، ما الكتاب الذي قرأته حديثا، وكثير من الإجابات يبدو صاحبها متلعثما مستدركا إجابة تنقذه من الحرج، ومحاولا استعادة على الأقل عنوانه كتاب، وغالبا ما يعترف لنا أصدقاء وزملاء بأنه ما كان يتوقع أن يتعرض لمثل هذا السؤال المحرج، وبموازاة العزوف عن قراءة الكتاب، هناك من يرتكب جريمة ضد المؤلف عندما يستغل باطن الكتاب ويسرق صفحات وينسبها له دون أدنى ذرة من الالتزام بحقوق الكاتب أو المؤلف، بل وتجاوز ثالث هو أن يدعي بعضنا بالثقافة عندما يتظاهر بشراء كميات من الكتب وبعناوين عميقة في الفكر، ليس بغاية القراءة والفائدة العلمية والمعرفية، وأنما بهدف صناعة خدعة للآخرين بانه صديق الكتاب. لعل كلمات صاحب مقهى الشابندر الحاج محمد الخشالي كانت درسا عميقا في حقوق الكتاب والبغداديات، سيما حادثة انتفاضة الراحل علي الوردي من أجل احترام هيبة الكتاب

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *