بقلم | فلاح مهدي

 

 

العندليب الذي غرّد في جسدهِ ونغّم الصوت بحركةِ اليد. البارع في التعبير، المحتكر لغة الجسد على المسرح حين يقدّم أغنية ملحمية كقارئةِ الفنجان.

عبد الحليم حافظ هو المطرب الوحيد الذي عليك رؤيته على المسرح والتدقيق في حركاته كي تفهم لغة الأغنية وتكتشف كلّ حرفٍ فيها. لا يجازف في إتّخاذ القرار ولا يتردّد أيضاً في إرتجال الإيماءات العجيبة التي تدهشك حين تسمع وترى ما يفعل هذا الكائن، كأنّه من سلالةٍ انزاحت عن سياقِ الغناء وبدأت في مزج الحركة الخاطفة مع اللحن لتولّد لنا روحاً جديدة تخرج من حباله الصوتية.

أغنية كقارئة الفنجان، مليئة بالخوف وقراءة مستقبل عاشقٍ غادرته حبيبته فلم يغادرها، مليئة بالمأساة وتبشير الإنسان بالفتاة التي طالما حلم أن يفكَّ ضفائرها ويدنو منها. لم أرَ مطرباً مثله، يقوم باختزال القصّة في ارتفاع الحاجب وتقليص رؤية العين وتدوير الرأس، لا وليس هذا فقط، بل يلفظ جملة “يهواها القلب هي الدنيا” بنشيجٍ هائلٍ ومستمر كدلالة على الضّياع واتّساع المسافة التي يراها هوّة تفصل بينه وبين حبيبته. يقول: (جلست والخوف بعينيها)، فيجسّد كل الخوف، الذي اعترى العرّافة التي تقرأ طالعه، في حركةِ عينيهِ وتقلّبات بصره. والمصيبة الأعظم ليست في هذا المقطع فقط، فهو يقوم بترقيص يديهِ ليسخّر الموسيقى (في المقدّمة) كأنّه إلٰها لهذه الأغنية فقط. أمّا الكارثة العظمى التي حيّرتْني حقّاً، هي أنَّه بأجزاءٍ بسيطةٍ من الثانية – في مقطع بحياتك يا ولدي امرأة – يقلب كلّ ملامحه دلالة على السرور والبهجة ثم يقول: (لكنّ سماءك ممطرة .. وطريقك مسدود)، في جزءٍ من اللحظةِ، تجده قد تحوّل من صفةِ المتولّه المبتهج إلى اليائس الذي انتظر ولم يسعفه الوقت. أقول أنَّ كما للشعرِ دلالة، فللأغنية دلالة أيضاً. فأنَّ الدلالة التي قام بإنتاجها هذا الكائن تحتاج إلى دراسةٍ عميقةٍ في عالمه والتدقيق في تسجيلات حفلاته. وأقول أيضاً، حين تقرّر أن تستمع لأغاني عبد الحليم؛ عليك أن تشاهده، في المسرح والكليب واللقاءات، وأضمن لك أنَّك ستكتشف شيئاً جديداً في كلِّ مرّةٍ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *