حين قلت في عمود سابق ، في هذا المكان ان مدينة “هيت” تسكن القلب ، لم يكن قولي مجرد حروف مجاملة بحق مدينة عراقية ، إنما هي حقيقة اكدتها زيارتي لها امس الاول ، وهي الزيارة الثالثة بأقل من عامين ، تجولتُ بين نواعيرها، وهي تعزف لحن خرير المياه في سيمفونية رائعة ألفها الزمن قبل آلاف السنين ، والتقيتُ ومعي زملاء اعزاء ، مجموعة من الادباء ومن اعيان المدينة الذين التقوا في ضيافة كريمة في دار ابنها الاخ عمار تركي جزاع .

وحقيقة ، ان مدينة ” هيت ” لا يمكن وصفها بالجميلة، فهي ابهى من الجمال، فالله، جل وعلا، حباها بكل مقاسات السياحة، من التاريخ الى الطبيعة، لكن شاء حظها ان تكون في بلد لا يقدر تلك المقاسات ، فهي تعد من أهم مدن التاريخ الإنساني القديم ، وتكثر فيها بساتين النخيل والفاكهة ، ولا تزال المنابع المائية الحارة من أبرز معالمها ، التي يمكن أن تستهوى ليس السواح في اصواتها وحرارتها، بل علماء الآثار والتاريخ والجيولوجيا .

كانت فرصة رائعة ، ان نلتقي بمؤرخ ” هيت ” د. قحطان محمد صالح الهيتي الذي انثال في حديث مسهب عن المدينة التي احب ، بعد تقديم جميل قام به ربان زيارتنا الزميل د. طه جزاع ، فأوضح بالأرقام والحوادث والذكريات ، محطات ظلت بعيدة عن التداول ، مصادرها كتب مهمة لبحاثة ومستشرقين ، وما تضمنته تقارير الدولة العراقية منذ عشرات السنين ، دعمها بلقاءات اجراها مع رجالات وعوائل هيتية عريقة ، فكانت الحصيلة كتاب للدكتور قحطان بعنوان ( هيت .. مدينة ورجال ) بـ 713 صفحة ، يتكئ على 297 مصدرا مهما ، معتمدا على رصانة في المعلومة.

ومن طرائف ما تضمنه الكتاب ، عرفنا ان ” هيت ” انتجت في سنة 1927 اكثر من (576) طناً من الملح ، وهي اكثر من الكمية المنتجة في مدينة ” الفاو ” في البصرة وفي كركوك مجتمعة في تلك السنة !

وبعد وفاة الملك فيصل الاول في سنة 1933 خرجت في المدينة تظاهرات منددة بدور بريطانيا ، معتبرة ان لها دورا رئيسا في وفاة الملك ، وحمل المتظاهرون تابوتا رمزيا ساروا به من الباب الغربي حتى الباب الشرقي للمدينة .. وفي سنة 1934 فتحت بالمدينة اول مدرسة للبنات ، وفي سنة 1936 شيد فيها المستوصف الصحي ، وفي سنة 1937 زار المدينة الشاعر الملا عبود الكرخي .

وفي سنة1947 ? جرى التعداد السكاني للمدينة ، وقد اظهرت النتائج ان مجموع عدد السكان هو ( 4830) نسمة ، وان من بين السكان 37 يهوديا واثنان من الصابئة ، وفي سنة 1956 قررت الحكومة انشاء محطة للكهرباء ومشروع لماء الشرب في هيت ..

ويستمر د. قحطان في سرد الذكريات وتواريخها عن هذه المدينة ، وهنا ، اقول بصدق المحب ، ان سفرياتي القصيرة لـ ” هيت ” اثبتت عندي ان السعادة ليست شيئا يمكن تأجيله للمستقبل, لكنها شيء نريد أن نشعر به الآن ، فأجمل الرحلات التي لم أندم عليها تلك التي كانت للطبيعة الساحرة التي أضافت لقلبي بهجة لا تقدر بثمن .. ان روح عوائل هذه المدينة الذين سكنوها لم تنطفئ ، فبقيت عذوبة التفاصيل الباهرة في بيوتهم ومزارعهم تنادي العالم أن يأتي ليقف في محرابها شاهداً على جمال هذه الروح التي شيدت وأبدعت ، فما ان تمشي في أزقتها وتعبر شوارعها وتحدث ساكنيها إلا ويبدو ماضيها شامخاً .. ان التاريخ ليس عنصراً موازياً للموت أو النسيان؛ فمدينة بلا تاريخ هي مدينة بلا روح .. مرحى لمدينة هيت هذا الالق

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *