يعد موضوع ( الكفر والتكفير ) في فترة العقود الأخيرة من أخطر الموضوعات التي تطرح في المناقشات النظرية والفكرية أو التي تستغل وتستثمر سياسيا في تأجيج الصراع بين المسلمين وطوائفهم بخاصة ما بين السنة والشيعة.
بداية لا بد من مناقشة المنهج الذي اعتمد في هذا المجال.. من قبل العلماء وفتاواهم الصادرة بشأنه.. الذي لاحظته بعد التتبع ثمة طريقان سلكهما العلماء ..الأول يعتمد ويسلك في تحديد قضية الكفر والتكفير طريقة إصدار الفتاوى كحكم شرعي مثلها مثل فتاوى الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات كالصوم والصلاة و..العقود والطلاق والبيع والشراء…الخ وبالتالي تصدر أحكام وكفر هؤلاء أو أولئك بناءا على معطيات روائية في غالبها وتطبيقها على هذه الحالة أو تلك بالضبط كما يتم التعامل مع الأحكام الشرعية الأخرى.. بطريقة استنباط الأحكام الشرعية وبالطريقة الرياضية مقدمات.. فرضيات.. أدلةو نتائج. كأن يتعلق الأمر بحكم عبادي أو مالي أو قضائي نستدل عليه من نص أو سنة ونبحث في صحة الدليل لننتهي للنتيجة.
غير أننا هنا في قضية الإسلام والإيمان أمام قضية اعتقادية وليست متعلقة بمقدمات حسية كالمذكورة آنفا ..إنما تتعلق بداخل الإنسان وقناعاته القلبية والذاتية ولذلك نجد الفقهاء في رسائلهم العملية ينصون على أن لا تقليد في أصول الدين كالإيمان بالله والرسالة والمعاد والولاية ويحملون المكلف مسؤولية البحث والقناعة الذاتية في قضية الإيمان.. ولا يمكن البت فيها والقطع أن هذا المكلف أو ذاك مؤمن حقيقة في هذه الأصول والإعتقادات أو ثمة نقص أو قدح في إيمانه ويترك الأمر في إعتبار إسلام الآخرين على الظاهر والمسموع بين الناس كونهم مسلمين.
ولكن يصر البعض على التكفير اعتمادا على جزيئات من أحاديث تنسب للرسول أو فهم معين لبعض الآيات ولكنها واضحة الإستخدام والإستهداف غالبا لأغراض سياسية ولتقدم المبرر الشرعي لتكفير أو قتل هذا المسلم أو ذاك.
ثمة منهج آخر يحاول أن يقدم معنى الكفر على أساس الإستخدام القرآني…
ومن أفضل المحاولات تلك التي قدمها لنا الشيخ حسن فرحان المالكي فهو يناقش معنى ( الكفر ) في القرآن بمنهج استنباط المعنى من الإستخدام القرآني ذاته ودلالته فيطرح معنى من معانيه مستخدما في النصوص القرآنية كثيرا هو العناد والجحود وعدم الطاعه لله ورسوله من مسلمين وممن قد أسلم كموقف منهم نفسي وقلبي يتعلق بهم وهو غير المعنى المتبادر والشائع لدينا عادة وهو الكفر العقائدي كالشرك مثلا ويستشهد للمعنى الأول بنوعين من الآيات: أولا الآية السادسة من سورة البقرة ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) والآية السابعة من سورة يس ( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ) وكأن الآيتين تتحدثان عن قانون و حقيقة و واقع تلبس به هؤلاء الكافرون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم و أن كفر غالبيتهم اسم استحقوه و نالوه رغم أنهم من حيث الذاكرة والوجدان والظاهر هم مسلمون ومنهم بل الكثير منهم ممن أسلموا بعد فتح مكة أي الطلقاء أكثرهم يمثلون هذا المنحى.. مسلمون بالظاهر ولكنهم كافرون في الحقيقة والواقع.. ذلك لأن ( الإسلام ) في القرآن الكريم مصطلح له معان ومراتب فالمرتبة الأدنى له الإسلام الظاهري كإسلام هؤلاء الطلقاء إنضموا جسديا لجماعة المسلمين ولكنهم في حقيقتهم كافرون وجاحدون ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) وهو غير إسلام ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) وغير إسلام الأنبياء ومرتبته السامية في التسليم المطلق لقضاء الله وأوامره ونواهيه كإسلام إبراهيم عليه السلام ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ).

النوع الثاني.. من الآيات أكثر كشفا وإيضاحا وتفصيلا لكفر هؤلاء من الآية الثامنة من سورة البقرة ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) إلى آخر الآية الثامنة والعشرين المفصلة لصفاتهم وأحوالهم.. ومن أوضح دلالات كفرهم رغم أنهم أعلنوا إسلامهم ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءو ن )
ويوضح المالكي أن هذه الآيات لا تتعلق بعبد الله بن أبي و منافقي المدينة لأن هذه الآيات من سورة البقرة نزلت قبل بدر بعد الهجرة النبوية وعبد الله بن أبي أسلم بعد بدر. و لذلك تشير وتعني وتنطبق على البعض من المسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة ولا شك أن رسول الله كانت هذه الآيات ومدلولاتها عليهم واضحة لديه ولكنه لم يرتب عليهم حكم الكفر الخارج عن الإسلام. وإنما كفرهم جحود ومعصية ونكران في داخل نفوسهم.
…………….
الآن السؤال والتساؤل.. عندما تتقرر معاني ( الكفر والإسلام ) على ضوء النص القرآني بهذا الفهم.. فلماذا لا يمكننا أن نفهم وندرك أن المقصود من ( التكفير ) الصادر من بعض علماء الشيعة الأقدمين بحق المسلمين الذين جحدوا ولاية أمير المؤمنين ولم يطيعوا الله ورسوله في هذه القضية المصيرية كعدم طاعتهم بعدم تقديمهم قلما ودواة له ليكتب لهم النبي كتابا لن يضلوا بعده أبدا أو عدم تنفيذهم جيش أسامة..إلخ هو من هذا النوع من الكفر الذي وقع فيه بعض مهاجري مكة إلى المدينة و أكثر المسلمين الطلقاء بعد الفتح..
أي المقصود بهذا ( الكفر ) ليس الكفر الملي المخرج من جماعة المسلمين وإنما كفر الجحود و العناد وعدم طاعتهم الله ورسوله. ولا أوضح على ذلك من قوله تعالى ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين… ).
أهمية طرح هذا السؤال والتساؤل في ظروفنا الحالية التي نعيشها وعايشناها في العقود الأخيرة وهي ظروف الهجمة الإستكبارية ومخططاتها التي استغلت فتاوى تكفير المسلمين بعضهم للبعض واستباحة القتل وبخاصة لما استندوا وأعتمدوا عليه من فتاوى إبن تيمية والوهابية المتساهلة جدا بالإتهامات المجانية بالكفر وكان أكثر من وقع عليهم التكفير والقتل من المسلمين بهذه الحجة المدعاة هم الشيعة الروافض كما يسمونهم في كل بلدان المسلمين.
والقضية معروفة في دوافعها الأساسية وجذورها باستغلال المدرسة الوهابية السعودية المرتبطة بفكر إبن تيمية في إنشاء القاعدة في حرب أفغانستان وحركاتها كالنصرة وغيرها وصولا لداعش واستغلالهم لشعار كفر الآخر العدو وتكفيره وأيضا استغلال هذه الحركات بالصراعات السياسية بين محورين منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران وحتى اليوم.. هذه الثورة التي لم تتحرك بدوافع مذهبية وطائفية وانما تحررية إنسانية عامة. وفي الأصل والأساس لم يصدر من علماء الشيعة أي فتوى بالتكفير.. وبالعكس كانت ولا تزال الدعوة إلى الوحدة الإسلامية الشعار الدائم لهذا المحور إعلانا وممارسة.. سوى بعض الأصوات والفضائيات المطروحة أخيرا و المحسوبة على الشيعة و المؤسسة والمصنوعة بمقاسات ودوافع محور التكفير الأول نفسه والمصابة بذات الداء والمرض وشعار تكفير الآخر وبالأحرى هي أساسا مصنوعة لأداء مهمة تأجيج الصراع المذهبي ..ومكانها وممولوها معروفون… وسوى ما صدر في الفترة الأخيرة من المجتهد السيد كمال الحيدري بإدعائه الغريب تكفير علماء الشيعة قديما وحديثا لأهل السنة رغم عشرات الفتاوى لعلمائهم وفقهائهم قديما وحديثا بإسلام أهل القبلة والشهادتين عموما.
ومن هنا أرى أن ما ذهب إليه الشيخ حسن فرحان المالكي من المعنى المتقدم والذي استدل به بآيات عديدة من القرآن الكريم هو المقصود من تكفير بعض علماء الشيعة الأقدمين وليس التكفير المخرج من الإسلام الظاهري الملي وإلا لماذا يتم الحكم من علماء الشيعة قديما وحديثا في التعامل مع أهل السنة والجماعة كمسلمين.. بحلية ذبائحهم و الزواج منهم والصلاة معهم .. إلخ وهو ما انعكس في ممارسات الشيعة وتوجيهات أئمتهم كممارسة حضارية للتعايش السلمي ولوحدة المسلمين ودرءا للفتنة وكما هي المقاصد التي أسس لها القرآن الكريم وسيرة أهل البيت عليهم السلام.
والغرابة في فتاوى التكفير أن تترشح وتصدر عن بعض أتباع المدرسة الأصولية العقلية الإجتهادية للشيعة الإمامية اللهم إلا أن تفتقر الى الفهم القرآني ودلالات النص القرآني كما أشار وفصل وأوضح الشيخ فرحان المالكي.. وإلا أن تفتقر إلى روح التشريع وفهم مقاصده المبثوثة في كلمات وسيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام.
و سيرة أهل البيت عليهم السلام شاخصة وشاهدة ودالة على هذا الفهم القرآني بل كاشفة عن فهم وتطبيقات أعمق لهذا الفهم .. ولنورد مثالا واحدا عن الإمام علي عليه السلام في تعريف الإسلام وماذا يعني وما هي دلالته.. ليتضح لنا معنى الكفر مقابله إذ يقدم الإمام في تعريفه للإسلام تعريفا يبني ويؤسس لنقلة نوعية وفهما إنسانيا حضاريا لبناء الإنسان وبناء العمران الإجتماعي الإنساني بعيدا عن المسطرة الكهنوتية في قياس عقيدة الناس.. وإطلاق فتاوى التكفير عليهم جزافا..
قال عليه السلام ( لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو العمل والعمل هو الأداء ….. إن المؤمن يرى يقينه في عمله. وإن الكافر يرى إنكاره في علمه…. ).
وبذلك يرى الإمام ويؤسس لفهم حضاري لمعنى الإسلام تقاس فيه قيمة الإنسان بعمله بل كيفية العمل .. الأداء.. إذ قد لا يكون عمله مقبولا أو حسنا أو نافعا.
وعندما يحدد الإمام صدق المؤمن ومصداقيته من خلال عمله ليتأكد ويتيقن من حسن إسلامه وصدق إيمانه في قوله ( إن المؤمن يرى يقينه في عمله ) فإنما يصدر من مدرسة القرآن وعن كتاب الله الذي يعتبر ( العمل ) هو الأساس في إسلام الإنسان أو كفره حتى عندما تتم المقارنة وإدعاء الإيمان والإسلام أو اتهام هذا الطرف لذاك بالكفر ما بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب أو غيرهم من الناس.. يطرح القرآن والإسلام هذه القاعدة العامة والأساسية: عمل الخير هو الإيمان والإسلام و عمل السوء هو الكفر..ولا شيء غير ذلك للمؤمنين بالله .. قال تعالى ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله نصيرا ) والخطاب موجه للمسلمين وأهل الكتاب المدعين أفضليه كل منهما على الآخر فيحسم الله والقرآن جدالهما بمقياس العمل..
إذن السؤال لماذا ننسى هذا المقياس وهذه القاعدة ( العمل ) وليس سواه شيء آخر .. كإيمان ندعيه والله أعلم به… أو عقيدة نستفيض في براهين ودلالات صحتها أو عشيرة أو وطن أو مال أو قوة أيا كانت.. إنما ( العمل ) هو المقياس في صلاح الناس وايمانها أو فساد الناس وكفرها وهو المصداق للإيمان الذي هو بين العبد وربه. وهو ذات المقياس الذي تعتمده الثقافة الحديثة في تعريف الوطنية والمواطنة الصالحة.
ها نحن في العراق وكل شعوب الأرض الممتحنة بسياسييها وحكامها المتسلطين عليها.. هل ثمة ما يمكن الركون إليه والأعتماد عليه في مواجهتهم من إدعاءاتهم بشعارات الإيمان والصلاح وأهلية القيادة سوى أعمالهم الكاشفة عن حقيقتهم.. ما هي إنجازاتهم لصالح الناس..هل هناك شيء آخر لتقييم صلاح هؤلاء ونجاحهم سوى أعمالهم ومنجزاتهم ?
وفي ذات السياق والمعنى تشير الآية 62 من سورة البقرة ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) إذ تجعل الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح سبيل الخلاص الأخروي ولوحظ هنا شرط الإيمان لتعلقه بالجزاء في الآخرة. وتضع أمام المؤمنين بالله واليوم الآخر من المسلمين وكافة الملل والأديان تضع أمامهم مقياس العمل الصالح وأن ليست ثمة غير العمل الصالح ما يحقق قيمته وإخلاصه الأخروي.
فجذر المشكلة في فهم الإسلام والإيمان والكفر قائم في ضرورة تقييم الناس والمجتمعات والدول على أساس أعمالها وليس على أساس انتماءاتها الدينية أو المذهبية أو القومية..الأمر الذي يهييء للصراعات ويثير العصبيات و الفتن والحروب.
يحدث كل ذلك عندنا بسبب الجهل والتخلف لفهم معاني ومقاصد الإسلام والقرآن فيطغى المعنى اللفظي الظاهري للكفر والإيمان بسبب الإنتماء.. على المعنى الحقيقي والسامي له والمرتبط بالعمل الصالح.
روي أن الإمام علي عليه السلام في خلافته في العراق كان مارا مع بعض من المسلمين بدير للنصارى فانبرى أحدهم قائلا ( ما أكثر ما أشرك الله فيه ! ) فرد عليه الإمام ( ما أكثر ما عبد الله فيه !). لأن نظرة هذا القاصر ممن اعتبرهم مشركين كانت تستمد فهمها وتقييمها من طغيان سلطة الأسماء والإنتماء ( نصارى.. يهود ) ولكن الإمام قياسه كان عملهم .. العبادة والإنقطاع إلى الله.. القاصرون دائما في فهم الإنسان والآخر يقولون عنه.. من هو ? تهمهم هويته.. ولكن عليا عليه السلام يعلمنا أن نسأل عنه.. ما هو وما عمله..
ولكن هذا الفهم للإسلام لم يتسن له أن يمتد ويترسخ ويتجذر في حياة المسلمين بعد استشهاده و بالإقصاء التاريخي لحاكمية أمير المؤمنين الإمام علي والأئمة عليهم السلام من ذريته.
في تاريخ الإسلام كانت إشكالية الخوارج بالتكفير الظاهرة الإجتماعية الأولى التي أسست لهذا المنحى المنحرف عن الفهم القرآني القائمة على الإتهام الجاهز بالكفر والإرتداد عن الإسلام لإختلاف في الفهم لقضية أو موقف سياسي هنا أو هناك .. وإن شئنا الدقة أكثر في تسجيل هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام فقد كانت هذه البادرة الخطيرة قد مورست واستثمرت للمرة الأولى في بداية عهد الخليفة الأول ومن قبل مبعوثه خالد بن الوليد لقتال المرتدين و لكنه استثمره في خضم قتاله للمرتدين في قتل الصحابي المسلم والمؤمن مالك بن نويرة لموقفه السياسي من شرعية الخليفة الأول حيث قتله و بنى بزوجته ليلة قتله.. ما أثار واستفز جمع من الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب مطالبا الخليفة الأول القصاص من إبن الوليد ولكنه أعتذر له بحجة ( إجتهد فأخطأ ) الشعار الذي دخل قاموس الإستثمار السياسي و فتح الباب على مصراعيه للتأويلات في الأحكام وشرعية المواقف. لقد كان الغطاء الذي تحرك به خالد بن الوليد قتال المرتدين عن الإسلام والكفر به وتمدده واستثماره سياسيا الى شرعية الخليفة واعتبار المخالف للخليفة حتى لو لم يكن مرتدا خارجا من جماعة المسلمين ومثله كالكافر يستحق القتل.
وكان لسيرة الحكم الأموي وسنة معاوية بن أبى سفيان في سب وشتم الإمام علي وشيعته في خطب الجمعة ما رسخ في أذهان العامة من مسلمي الشام خاصة كون الإمام وشيعته خارجين عن الإسلام محكوما بكفرهم.. وحيث يمنح حكم الكفر الحاكم والخليفة حق قتله وإقصائه.
كانت هذه البدايات التاريخية في الإسلام لهذا المنحى من إستثمار شعارات الإيمان والكفر لأغراض سياسية. وامتدت في منحى آخر عندما احتدمت واشتدت قضايا علم الكلام ونقاشات العقائد وصولا لقضية خلق القرآن وقدمه وفتنتها في عهد المأمون العباسي و أحمد بن حنبل..أثيرت اتهامات الكفر والتكفير و دخلت السياسة والحكام أطرافا مؤيدين لاتجاه ضد آخر… وابتعد نهج أهل البيت عليهم السلام عن الخوض في هذه المسألة.. شبهة خلق القرآن لعدم جدواها في الإعتقاد والعمل ولأن محددات الكفر والإسلام والإيمان ومراتبها تستقى عندهم من القرآن. وليست مقولات قدم القرآن أو حدوثه أو خلقه في عصر الرسالة أو أية مقولات شبيهة بذات أثر أو جدوى على إيمان الإنسان بعد أن تحدد بالعمل الصادر منه.. كما تقدم واتضح.
ولكن النقلة النوعية لظاهرة التكفير ترسخت وتبلورت أكثر وأكثر مع مدرسة إبن تيمية في العهد المملوكي في أواخر القرن السادس الهجري وإتجاهها في تكفير مخالفيه. واستخدام التكفير سيفا مسلطا يشهره بكل سهولة ويسر تجاه جميع مخالفيه وحتى أن صارت ظاهرة التكفير العلامة البارزة في فقهه واحتجاجاته.
وفي تاريخ المسلمين الحديث استغل الإستعمار البريطاني هذه الثغرة عند الوهابية المستندة لمذهب الحنابلة المتشددين وفكر إبن تيمية ودعموا آل سعود المتحالفين معهم في سيطرتهم على العالم العربي والإسلامي تجاه الدولة العثمانية وحركات التحرر العربية الوطنية والقومية.
وعند تراجع الإنكليز إعتمد الإمريكان ذات المدرسة و أساليبها التكفيرية في محاربة الشيوعية في أفغانستان وفي تنفيذ مخططاتهم في العالم العربي والإسلامي بإنشاء القاعدة والنصرة وداعش وبوكو حرام…الخ
القضية المهمة والمركزية الواضحة سواء في تاريخ المسلمين القديم والحديث أن قضية التكفير من أخطر الأفكار والمعتقدات التي اشتغل عليها واستثمرت خلافا لمعناها القرآني الذي يعني في العديد بل الكثير من الآيات كما أبان وفصل الشيخ حسن فرحان المالكي باعتماده الإستخدام القرآني والمنطق القرآني و دلالات النص القرآني الذي يعني الجحود والعصيان للأمر الإلهي وينطبق على الكثير من المسلمين في عصر الرسول والذي لم يرتب عليه النبي صلى آلله عليه و آله وسلم أي أثر من إخراجهم من جماعة المسلمين أو الحكم بارتدادهم مثلا…
وخلافا للمدارس والمذاهب الفقهية التي يكفر بعضها البعض الآخر نجد أن المنطق القرآني منطق إنساني عام ….( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أؤلئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ) الآية 199 آل عمران فيشمل بالإيمان من غير دائرة المسلمين ..من أهل الكتاب.. و في مقابله كانت ظاهرة التكفير عند المسلمين المستمدة من منطق الفقهاء والمذاهب يكفر بعضها البعض الآخر و غالبا وراء ذلك المصالح السياسية.
ما نريد أن أخلص إليه هو ضرورة أن يكون تعاملنا مع هذه القضية الخطيرة على ضوء الإستخدام القرآني وسيرة أهل البيت عليهم السلام لا أن نتحول الى منطق فتاوى التكفير والإقصاء ونمنح أنفسنا سلطة تقرير مصائر الناس.
فثقافة الإفتاء الشرعي في تحديد إيمان الناس ومصائرها أمر غاية في الخطورة وينتعش في ما نمر به من حالة الضعف والجهل والإنقسام والتسلط الإستكباري الذي استثمر في هذا الموضوع كثيرا.
فيما نجد أن المنطق القرآني يختلف كثيرا في التعامل مع موضوعة ( الإيمان والكفر ) فهو لا يعني فيه التحديدات ذات المفاهيم الإفتائية التي تجعل الناس في قوالب محددة تفصل بينها خطوط حمراء بل المسلم يمكن على ضوء الفهم القرآني أن يتحول كافرا بدرجة من الدرجات وعلى ضوء الحديث الشريف يمكن أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا وفق نيته وعمله والمحدد لذلك الله سبحانه المطلع على حقائق الأمور والأشياء والنوايا.
و الغاية من هذا الفهم والتوجيه القرآني أو من السنة الشريفة غاية تربوية تهذيبية بقدر ما تحذر وتنذر تحفز الإنسان للوعي واليقظة للحالات المحتملة لسقوط المسلم والمؤمن في طريق الكفر والانحراف لينتبه لسلوكه ومواقفه.
والظن الغالب أن مدرسة الإجتهاد العقلي الأصولية لإستنباط الأحكام الشرعية عند الشيعة الإمامية أقرب ما تكون لنهج الفهم القرآني الموضوعي..بعيدا عن النهج السياسي الطائفي..وليست الأحكام الفقهية الصادرة بتكفير غير الإمامي الأثني عشري من بعض علماء الشيعة قديما وحديثا رغم ندرتهم إلا إمرا مخالفا لواقع الحال عند الشيعة الإمامية هذا الحال الذي أرساهم عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام.. ولما بسطنا القول فيه تبعا للمصطلح القرآني الذي يطلق مفهوم الكفر على المسلم في حالات معينة ولا يقصد به خروجه من الدين ومن دائرة المسلمين.
ولكن تبقى الإشكالية في سلطة وسلطان الأحكام والفتاوى التي دفع المسلمون أثمانها باهظة.
ولو أنهم تدبروا الفهم القرآني وتعامله مع مفردات الإيمان والإسلام والكفر وتدبروا سيرة النبي والعترة الطاهرة وتعاملهم بخصوصها لكنا أقرب لدين الله والإنسانية و أبعد عن الفهم الطائفي الضيق الذي اطمع أعداء الإسلام قديما وحديثا أن يستثمروا سياسيا فينا بشعارات وفتاوى الكفر والتكفير لبث الفرقة والخلاف في الأمة وتقسيمها وإقصاء وقتل مواجهيهم بهذه الحجة.
و لنخلص أخيرا أن موضوع الكفر والتكفير في تاريخ الإسلام والمسلمين قديما وحديثا.. نهجان ومسيران: قرآني موضوعي وسياسي طائفي.
…………………………..

ولكي ندرك أبعاد المنهج القرآني الموضوعي في التعامل مع قضية الكفر والتكفير وهي من أخطر القضايا العقدية الكبرى كما أكدنا آنفا لما يترتب عليها من آثار…
نشير إلى بعض الملاحظات التي تلقي الضوء على خصائص هذا المنهج.. من باب التحديد والتوضيح

الملاحظة الأولى.. ينبغي أن يستقى مفهوم ( الكفر والإيمان ) والتعامل معه من القرآن والسنة الشريفة وليس من سياق التعامل التاريخي للمسلمين مع القضية وإذ يطغى ويسيطر صوت الحاكم وعلماء السلطان وفتاواهم بالاستثمار السياسي في القضية.
إذ لا ينبغي أن نصوغ متبنياتنا الأساسية من خارج الفهم القرآني أو النبوي وسياقه.

الملاحظة الثانية.. إن الإستخدام القرآني أورد في الآية ٢٠ من سورة الحديد أورد أصل المعنى اللغوي لكلمة ( الكفر ) في قوله تعالى (.. إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم تراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما متاع الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ). واستخدام هذا اللفظ (الكفار ) من معناه اللغوي ونقله إلى الإصطلاحي الذي نحن بصدده أي ( الكفر ) مقابل ( الإيمان ) للمناسبة بينهما واشتراكهما في معنى التغطية والستر لأن المفسرين يذكرون أن المراد بالكفار في الآية الزراع لأنهم يكفرون البذر أي يغطونه بالتراب.. ولعل لفظ الكفار بمعنى التغطية والستر للزراع وهم يغطون ويسترون البذر أكثر وصف وصورة تقرب معنى الكفر والكافرين الإصطلاحي في القرآن وهم يجهدون كالزراع عندما يسترون ويغطون الحق والحقيقة والنعمة الإلهية .. يغطون حقيقة الإيمان بالله الفطرية.. يكذبونها ويجحدونها ولا يستطيعون إنكارها واستيقنتها أنفسهم ولكنهم يبذلون جهدهم كالفلاحين والزراع وهم يغطون البذور أصل الزرع والنعمة الإلهية المادية في التراب. ولكن حقيقة الإيمان لا بد أن تظهر وكما ستنمو وتنتج هذه البذور ثمرا وزرعا يانعا.
وعليه ومن خلال استخدام القرآن للمصطلح اللغوي للكفر يمكن أن نفهم أن معاني الكفر لا تقتصر على الكفر الديني مقابل الإسلام وإنما تشمل حالات يمر بها المسلم وتعتري حياته فتطلق على المعصية المعينة أو الجحود أو النكران وعدم الشكر …إلخ.

الملاحظة الثالثة… إن أصل قضية الإيمان والكفر تتعلق بالإعتراف بالحق والحقيقة الكونية الكبرى والإيمان بها إتباعا وطاعة وشكرا لا تكذيبها و معصيتها وجحودها…
إذ لا يكفي في مصداقيتها أي قضية الإيمان مجرد الإعلان عنها بشهادة أن ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) والتي أعتمد الإسلام في أول ظهوره على النطق بهما كمدخل لإعلان الإنتماء للإسلام والدخول في جماعة وأمة المسلمين كهوية مميزة للمواطنة في دولة وأمة المسلمين.
ولعل الآية القرآنية ١٤ من سورة الحجرات ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ) .. تكشف بوضوح الفرق بين المسلم والمؤمن .. فالمسلم من أعلن الشهادتين ودخل في جماعة المسلمين وصار واحدا منهم له ما لهم وعليه ما عليهم.. أما قضية الإيمان فتتعلق بشرطين لتحققه هما الإيمان القلبي في الكيان الداخلي للمسلم بأصول الإسلام وعقائده وضروراته. والثاني العمل بطاعة الله ورسوله فيما أمرا به أو نهيا عنه.. وهي قضية ذاتية شخصية ولكن تترتب عليها آثار إجتماعية لأن الوجود الإنساني وجود إجتماعي.

الملاحظة الرابعة.. القرآن يتعامل مع الإنسان فيما يطرحه من مفاهيم وقضايا وعلاجات بما هو إنسان خلقا وفطرة وعقلا وروحا ونفسا فالله هو خالقه ويعلم ما يناسبه ويصلحه.. ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ( ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ) ( ولقد خلقناكم أطوارا ) ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) ( ولقد خلقنا الإنسان في كبد )..الخ
هذا من جانب ومن جانب آخر يتعامل مع الإنسان المجتمعي ( المتأثر بالمؤثرات الإجتماعية .. عادات وتقاليد وأنظمة ومفاهيم وأفكار ) والذي صيغ وتأثر وفق مؤثرات بيئته.. ألا يقال الإنسان إبن بيئته.. ولندرك إلى أي مدى ودرجة من درجات التأثر بالوسط الإجتماعي على الإنسان بحيث تصل كمثال لعلماء ومفكرين يعبدون ويقدسون البقرة .. غاية في الانحطاط العقلي والخروج عن الفطرة ولكن ذات الوقت غاية في قوة وسلطة التأثير الإجتماعي والعقل الجمعي. وهكذا وجدنا الأمر في التقديس الجمعي للأشخاص كانقياد الألمان لمفجر الحرب العالمية الثانية أدلوف هتلر مثلا وصياغته لإتجاهات العقل النازي وتوجيهه.
إذن القرآن ككتاب هداية وخلاص لا بد أن يضطلع بمهمة معالجة الإنحرافات الفكرية والسلوكية والإجتماعية للإنسانية. ومن هنا طالما وجهنا الإمام علي عليه السلام إلى القرآن في نصوص عديدة ومستفيضة إلى وظيفة وأهمية كتاب الله في هذا المجال.. ( ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي و دواء دائكم ونظر ما بينكم ) أي في حال فهمه يمكن أن نرى ونستشف فيه المستقبل الإنساني للمجتمعات البشرية ( فيه علم ما يأتي ). و نتعرف على ماضي التاريخ والحضارات ودروسها وعبرها ( والحديث عن الماضي ). و به نستعين على معالجة وتجاوز مشاكلنا الإجتماعية والسياسية والاقتصادية
( وداء دائكم ونظر ما بينكم ).
ونظير ماسبق قوله عليه السلام ( فيه نبأ ما قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم ).
وفي مجال الدور التهذيبي والتربوي لبناء الإنسان العقائدي والأخلاقي والسلوكي يشير إلى المهمة الأولى للقرآن فيما لو توفرنا على مقدمات و آليات استنطاقه حيث وجهنا لهذه المهمة مع كتاب الله بقوله ( واستنطقوه ) وفي نص آخر لبيان هذا الدور التربوي ( واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستعشوا فيه أهواءكم ).

الملاحظة الخامسة.. أن الفهم القرآني والسنة الشريفة مصدرا الإسلام يؤكدان على مقياس العمل كمائز ومحدد أساسي بين الإيمان والكفر كما سبق وأن استدلينا على ذلك بالنصوص القرآنية التي ما خاطبت المؤمنين إلا و وصفتهم ( الذين آمنوا و عملوا الصالحات ) والآية الثانية من سورة التغابن تستجلي هذا القصد والمعنى و تعكسه بإشارة واضحة إلى العمل في الفرق بين المؤمن والكافر ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ).
والتوضيح والبيان الأكثر شرحا لهذا المقياس كما مر بنا كان في تعريف الإمام علي عليه السلام للإسلام.
وبذلك يأخذنا الإسلام إلى الانشغال بالعمل الصالح أساسا لبناء الإنسان والمجتمع والحياة ولا يوجه بالانشغال في البحث عن النوايا وخبايا النفوس. وإن كان منهجه أساسا معني بتصحيح النوايا وتطهير النفوس.. لما يترتب على هذا الإنشغال من صراع وتفكك إجتماعي..بخاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا الكفر والإيمان.

الملاحظة السادسة.. سيرة النبي والعترة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم كمواقف عملية وتعاملات كاشفة و تؤكد هذا المنهج في التعامل مع الآخر المسلم كمسلم على ظاهره ولا تعتمد استبطان حقيقته ونواياه والأمثلة على ذلك كثيرة جدا كتعامل النبي ص مع المنافق عبدالله إبن أبي.. وما قاله لأسامة بن زيد عندما أجهز على كافر قال لا إله إلا الله وقتله فآذى النبي ص ذلك وقال له ( هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب ) وتعامل الإمام علي ع مع الخوارج غير المحاربين ..وكتعامل بقية إئمة أهل البيت ع مع غير المؤمنين بالولاية بهذا المنهج. منهج الأخذ بالإسلام الظاهري كعنوان عام لمجتمع وأمة الإسلام و المسلمين.

الملاحظة السابعة .. والأساسية أنه لا يمكن أن تخضع قضية خطيرة كهذه أعني بها إسلام المسلمين ومن تشهدوا الشهادتين والمسلمون بالتبعية لوالديهم.. لا يمكن أن تخضع إلى سلطة فتاوى الفقهاء وأحكامهم. لأنها قضية عرفية إجتماعية سياسية وتخص أمن الدول والشعوب والتعايش السلمي. فما تعارف عليه تاريخيا المسلمون من إسلام الطوائف والمذاهب المعينة يمضي ويحترم..وتحترم الخصوصيات المذهبية داخل الإطار الإسلامي. بل تسعى النخب الواعية والمسؤولة إلى تعزيز وحدة المسلمين متأسين و منفذين لما أمر الله به في آيات كثيره في كتابه وبما جاء في سيرة النبي وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين و ليكونوا مصداقا لمفهوم الآية الكريمة و التي يخاطب بها الله سبحانه جميع المسلمين ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ).

 

…………………..

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *