يتحدث النقاد ومنظرو علم الجمال عن قصيدة النثر المعاصرة واصفين إياها تارة بقصيدة حداثية أو قصيدة ما بعد حداثية، مطمئنين إلى التحديدات والمواصفات التي اتسمت بها هذه التيارات في موجات مجتمعة، أومتتابعة من إصدرات الشعراء.
لكن واقع قصيدة النثر المعاصرة – في بعض الدواوين والنصوص الشعرية – يند ويخرج عن هذه القولبة، هناك تمردٌ على السمات الخاصة بكل تيار، والتي تستدعي إحداها الأخرى بداخل التيار ذاته، وأحسب أن قصيدة النثر المعاصرة في حاجة إلى نظر نقدي وجمالي أكثر توتراً لا يركن للإطمئنان أو الثبات، نظر أكثر انفتاحاً على التيارين الحداثي وما بعد الحداثي، فهناك تداخل انتقائي لسمات من كلا المذهبين في المنتج الشعري المعاصر، هذه الانتقاءات التي ترتكز على ثقافة المبدع واقتناعاته عن مفهوم الشعر، ودوره، وتكنيك صياغته.
الواقع الشعري يقول إن هناك نصوصاً تجمع بين طياتها التقنيات الفنية للحداثة وما بعد الحداثة مجتمعة، ذلك حين شذبت بعض المفاهيم ولم تجنح للتطرف.
تبدو السمات ما بعد الحداثية – على سبيل المثال لا الحصر – حين خففت من غلواء تعويلها على دور الذات الشاعرة وميلها إلى دور النبوة أو المصلح الاجتماعي، وحين خففت أيضاً من استغراقها في المجاز التصويري المتراكب والمتراكم الذي أثقل النص بطبقات من الغموض الكثيف والمشتت للقارئ.
وهذبت سمات تيار الحداثة في النص المعاصر حين تم جذبه من حياديته ولا مبالاته بالهم الإنساني العام والهم المجتمعي، وخاصة بعد الثورات العربية الأخيرة، وحين تبدي أن هناك موازنة في الاحتفاء باللغة التقريرية وجمالياتها الخاصة التي تعتمد على زاوية الالتقاط وطرافتها وبين جمال المجاز التصويري في حالة عدم الاستغراق والاستغلاق فيه؛ لما يهبه للنص واللغة من إمكانات خيالية غير محددة، باعثة على التجدد والابتكار.
اختلفت إلى حد ما الذات الشاعرة عما كان يبدو في تيار الحداثة فخفت حدة الصوت الواثق من القدرة على الفعل. في بعض قصيدة النثر المعاصرة تتبدى ذات شاعرة تختلف بنسبة عن الذات ما بعد الحداثية المنسحبة تماما من الحياة والقضايا التي تحوطها، الذات التي انكفأت على أشيائها ومفرداتها الصغيرة في حالة من اللانفعال واللاعواطف.
تتيح التقنيات الشعرية الحديثة للفنان كثيراً من الحرية التي تمكنه من عدم التقيد بهيكلة بنائية ملزمة تقلص من انطلاق العملية الإبداعية بأية صورة، فلا قيد إيقاعي سوى الموسيقى الداخلية العميقة بين المفردات، لا بحور ولا وزن ولا قافية.
هَمشت القصيدة مُابعد الحداثية الصور المجازية، وأعلت من اعتمادها على المشهد البصري حيث يشكل الشاعر التكوين المجازي والخيالي مشهداً، ويخضعه للشكل البصري الذي يتيح التجسيد، الذي تكمن به نوعاً من الشعرية التي تغذي حواس الإنسان، فخلَّق عناصر للمشهد بأن أوجد له المكان وأشياؤه حيث الحركة والشخوص، والدراما والمفارقة من خلال نزوع إلى السرد داخل القصيدة.