في‭ ‬إيطاليا‭ ‬هناك‭ ‬مدينة‭ ‬صغيرة‭ ‬حالمة،‭ ‬فاتنة،‭ ‬ساحرة،‭ ‬غريبة،‭ ‬اسمها‭ “‬رابالو‭” ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬جنوة‭.. ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬زارها‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬نيتشه‭ ‬وكتب‭ ‬عند‭ ‬شطآنها‭ ‬كتابه‭ ‬الأشهر‭ “‬هكذا‭ ‬تكلم‭ ‬زرادشت‭” ‬فأصيب‭ ‬بالجنون‭. ‬وزارها‭ ‬الشاعر‭ ‬الإنكليزي‭ ‬شيللي‭ ‬لكنه‭ ‬غرق‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬زيارتها‭. ‬وزارها‭ ‬الشاعر‭ ‬الرومانسي‭ ‬بايرون‭ ‬ثم‭ ‬قتل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬اليونان‭!.‬

‏وفي‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬وصف‭ ‬الشاعر‭ ‬الأميركي‭ ‬يزرا‭ ‬باوند‭ ‬هتلر‭ ‬بأنه‭ “‬شهيد‭”‬،‭ ‬ودافع‭ ‬بحماس‭ ‬عن‭ ‬موسوليني‭ ‬والفاشية‭ ‬الإيطالية،‭ ‬فقبض‭ ‬عليه‭ ‬الجيش‭ ‬الأميركي‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬يحلم‭ ‬على‭ ‬الضفاف‭ ‬برومانسية،‭ ‬وحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالإعدام‭ ‬فانتهى‭ ‬مريضاً‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬الأمراض‭ ‬العقلية‭!. ‬

‏ومثلما‭ ‬هناك‭ ‬مدن‭ ‬غريبة‭. ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬والعادات‭ ‬الشعبية‭ ‬أكثر‭ ‬غرابة‭. ‬

‏ويحدث‭ ‬أن‭ ‬تتشاءم‭ ‬من‭ ‬إنسان‭ ‬يقابلك‭ ‬فتقول‭: ‬جاء‭ ‬غراب‭ ‬البين‭. ‬والمعنى‭ ‬جاء‭ ‬ومعه‭ ‬مصيبة‭. ‬والعرب‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬يتخدون‭ ‬من‭ ‬الغراب‭ ‬رمزاً‭ ‬لكلّ‭ ‬مصيبة‭ ‬وفاجعة‭!. ‬

‏وصوت‭ ‬الغراب‭ ‬نعيق‭. ‬مع‭ ‬أن‭ ‬صوته‭ ‬ليس‭ ‬قبيحاً‭. ‬وفي‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬يتطيَّرون‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬الغراب‭ ‬فيقولون‭: ‬ليت‭ ‬الغراب‭ ‬الذي‭ ‬نادى‭ ‬بفرقتنا‭!.‬

‏وكثير‭ ‬من‭ ‬عاداتهم‭ ‬خرافات‭. ‬ولعلَّ‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬ما‭ ‬يواسي‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الإرتياح‭. ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬كامل‭ ‬الشناوي‭:‬

‏أشتري‭ ‬الحب‭ ‬بالعذاب

‏أشتريـه‭.. ‬فمن‭ ‬يبيــع؟‭!.‬

‏ومن‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬والعادات‭ ‬عندما‭ ‬يسقط‭ ‬كوب‭ ‬زجاج‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬فينكسر‭ ‬نقول‭: ‬ذهب‭ ‬الشر‭ ‬وطار‭.. ‬ولا‭ ‬أعلم‭ ‬ما‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشر‭ ‬والأكواب؟‭. ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬الشر‭ ‬ينتظر‭ ‬هذا‭ ‬الكوب‭ ‬ينكسر‭ ‬فيأخذه‭ ‬ويطير؟‭!.‬

‏وأديبنا‭ ‬الساخر‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬المازني‭ ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬التشاؤم‭. ‬وكان‭ ‬أن‭ ‬سقط‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬ظلماء‭ ‬في‭ ‬قبر‭ ‬خرب‭ ‬وانكسرت‭ ‬ساقه‭ ‬فأصبح‭ ‬أعرج‭. ‬فزاد‭ ‬العرج‭ ‬من‭ ‬تشاؤمه‭. ‬وكان‭ ‬يلحُّ‭ ‬في‭ ‬دعائه‭ ‬أن‭ ‬يعذِّب‭ ‬الله‭ ‬الآخرين‭ ‬مثلما‭ ‬يتعذب‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭:‬

‏أكلِّما‭ ‬عشتُ‭ ‬يـومـاً‭.. ‬

‏أحسستُ‭ ‬أنني‭ ‬متَّه؟‭.‬

‏طبعاً‭ ‬لدينا‭ ‬من‭ ‬نسخة‭ ‬المازني‭ ‬جيش‭ ‬من‭ ‬المتشائمين‭. ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬لديه‭ ‬قصة‭ ‬ومأساة‭. ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الإغريق‭ ‬عباقرة‭ “‬سيزيف‭” ‬المحكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالعذاب‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭. ‬ثم‭ ‬شوبنهاور‭ ‬صاحب‭ ‬نظرية‭ “‬الألم‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الفناء‭”. ‬إلى‭ ‬أشباح‭ ‬فرانس‭ ‬كافكا‭ ‬الكاتب‭ ‬التشيكي‭ ‬وكوابيسه‭ ‬المفزعة،‭ ‬حتى‭ ‬أحمد‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭ ‬القائل‭: ‬

‏أتسعى‭ ‬لإصلاح‭ ‬هذا‭ ‬البشرْ

‏وقد‭ ‬خُلِقوا‭ ‬من‭ ‬بلاءٍ‭ ‬وشـرْ؟‭.‬

‏وبرغم‭ ‬هناك‭ ‬دراسات‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬المتشائمين‭ ‬يموتون‭ ‬قصار‭ ‬العمر‭. ‬لكني‭ ‬وجدت‭ ‬النقيض‭ ‬يحدث‭ ‬تماماً‭. ‬فأبو‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬مثلاً‭ ‬عاش‭ ‬مائة‭ ‬سنة‭ ‬بطولها‭ ‬وعرضها‭ ‬وعمقها‭ ‬أيضاً،‭ ‬ليوصي‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الموت‭ ‬أن‭ ‬يكتبوا‭ ‬على‭ ‬قبره‭: ‬

‏هذا‭ ‬جناهُ‭ ‬أَبـي‭ ‬عليَّ‭.. ‬‏وما‭ ‬جنيتُ‭ ‬على‭ ‬أَحد‭!.‬

‏وفي‭ ‬الملحمة‭ ‬الشعرية‭ “‬الكوميديا‭ ‬الإلهية‭” ‬لدانتي‭ ‬يحكي‭ ‬كيف‭ ‬تهوي‭ ‬الأرواح‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬عميق‭ ‬من‭ ‬العذاب‭. ‬ثم‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ينادي‭ ‬عليهم‭: ‬أيها‭ ‬الواقفون‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬هذا‭ ‬الجحيم‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬لكم‭.. ‬‏ولكنني‭ ‬أقول‭: ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬أمل‭.. ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬هناك‭ ‬أمل‭.. ‬يبقى‭ ‬الأمل‭!.‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *