ضمن إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، صدرت حديثًا للشاعر المصري، كمال أبو النور، مجموعة شعرية جديدة حملت عنوان: “شجرةٌ في قلب ذئب”، متضمنةً 36 نصًا، تتماهى، منذ عتبة “الإهداء”، في سياق كتابة مغايرة للمألوف، وتفيض شاعريةً:
(إلى كمال أبو النور/ كم مرةٍ قتلْتَ توأمَكَ/ من أجلِ أن تحيا!).
بشيءٍ من التشذيب والخفة وآهة عشقٍ طويلةٍ، يوقظ أبو النور الأرواح المنكسرة لتقاوم هزائمها ولتكبر فوق جراحاتها، إذ لا مناص من عبور جسر الحياة المتعرج: ظهري لم يعد صالحًا لزراعة الأشجار/ ورئتاي لا تتحمل الهواء المزيف/ الطريق ليس واضحًا/ ولا بد من عبور هذا الجسر.
وإذ تتداعى التشظيات، حيث لا شيءَ يَلوحُ في الأفق بحدوث أمطار، والكوب فارغ، وانتظار الموت يعد جريمة، والقلب يقترب من سقوط أسنانه في الثواني الأخيرة من انكسار العالم، هنا يقترح الشاعر استراحة للعالم المرتبك، وعودة إلى حياة الكهوف: في هذه الفجيعةِ والألمِ الصامتِ،/ أمام دموع الشوارعِ،/ وحدادِ المقاهي/ أمام النوافذ العمياءِ،/ وأشباحِ المدنِ/ لست متأكدًا من نهاية الموسيقى والغناء؛/ لكنه العالَمُ يرغبُ في استراحةٍ قليلةٍ،/ من الضجيج والتلوث؛/ يحنُّ للعودة إلى الكهوف،/ يرغبُ بشدةٍ أن يعودَ الإنسانُ عاريًا أمام الوردةِ.

يمجد الشاعر العزلة، مبررًا الحاجة إليها في زماننا اليوم، إذ يعدها رفاهية باهظة الثمن، ويرى فيها قوة التشبث بالحياة في ذروة احتشاد الحروب والكوارث والأوبئة، لا هربًا ولا عجزًا..
ويتعاطف الشاعر مع “البحر”، برغم أنه (أي البحر) لم يعد طيبًا، في نظره، لأنه وضَعَ مصيدةً لنفسه عندما قبِل أن يتزوج الشاطئ، وأن يحمل عبء طعام الأسماك، كاتبًا على نفسه الشقاء في سجن أبديّ: كان على البحر ألا يتزوج الشاطئ/ ويحمل على كتفيه عبء طعام الأسماك/ كان عليه ألا يضع المصيدة لنفسه…. ولهذا، أخذ أبو النور يحرض البحر على أن يثور على الشاطئ الانتهازيّ إذا ما أراد الجلوس مع غيمة بيضاء في مقهى، أو الذهاب مع سحابةٍ عابرة إلى السينما.. وهو تحريض غير مباشر على التغيير في الحياة، لا الارتهان لحصاراتها، وذلك يبدأ من التمرد على يأسنا والتصدي لهزائمنا الداخلية.

*أرواحٌ شرّيرة*

ويمقت الشاعر المثالية الزائفة التي تفضي إلى امتهان الكذب على أنفسنا وعلى الآخرين، مُشبِّهًا من يدّعون المثالية بالنيام داخل ثلاجة موتى. والأمر نفسه ينطبق على من يخونون مواثيقهم وعهودهم، لا سيما مواثيق المحبة والعشق. أما الشعراء فيحذر منهم أبو النور: نحتاج كثيرًا من العتمة/ لا نشعر بالذنب تجاه ضحايانا/ نصافحُ ظِلالنا كأثرٍ وحيد/ يدل على أرواحنا الشريرة.
وبعيدًا عن تعليب الكلام وتنميقه، ينوه الشاعر بأنه ليس ملاكًا ولا بابا نويل: ملامحي الطيبة خدعة كبرى/ وبراءتي فخٌّ لإحكام حبل المشنقة/ حول أعناق من يدّعون صداقتي.
ومع أن الشاعر استخدم التكرار بشكل لافت، لا سيما في بدايات الأسطر، في كثير من نصوص المجموعة: على المنازل؛ على الأبناء؛ على الأسرة؛ على الطبيب؛ على المعلم؛ على الممرضة؛ على العامل؛ على العلماء؛ على الشعراء…. ومثل ذلك في نص آخر: أحب الرعد؛ أحب رائحة الخوف؛ أحب المنازل وهي ترتعد…. وفي نص ثالث تكررت البادئة: “يجب…..” تباعًا، وثمة أيضًا: لماذا لا يعيش البحر وحيدًا؛ لماذا لا تطلب من الأمواج أن ترقص لك… وفي نص بعنوان: “في هذه العتمة الخلابة”، تتواتر بادئة السؤال: (ما؛ من؛ هل؛ أم….)، عندما انهال الشاعر بأسئلته على الصباح: ما تاريخ ميلادك؟ من أطلق عليك اسم الصباح؟ هل أنت ابنٌ شرعيٌّ للسماء؛ هل أنت وجهٌ مغشوش للملائكة، أم أنك شاطئٌ تستحمُّ عليه الشياطين؟… إلا أن كل ذلك التكرار لم يكسر غصنًا واحدًا من “شجرة قلب الذئب”، بل زاد النصوص شاعريةً، تاركًا “سيارة مجنونة” في الطريق العام تتجه إلى صدر حبيبةٍ يفتقده كل فقراء العالم، عندما اندلعت رغبات الشاعر مجنونةً، وهو الذي كتب على باب قلبه بماء الورد والزعفران: “خلقتُكِ لي وحدي”…

وبين لحظات الالتئام والارتطام، وعثرات الحياة ونبيذها، يراوح الشاعر بين الأمل واليأس، الشك واليقين، الحب والخصام، اللوعة والقهر، الحاجة والاستغناء، الشوق والملل، لينتبه أخيرًا إلى أن سنوات عمره قد تساقطت، وأنه وصل إلى السأم من ملابسه وطعامه وحجرته وهويته ورقمه القوميّ، فكلها ممرات إلى الجحيم، حيث الخوف من كل شيء: مثل غصن مجروح معلق في الهواء، ماتت شجرته في أول شبابها.
نجح أبو النور في كتابة تترك شجنًا في قارئها، وتنجز مفارقةً تطير به إلى متراميات شعرية، من خلال مفارقات نجد فيها اشتباكًا بين كلمة ونقيضها، أو بين كلمة ومرادفها في الفشل: الصباح ـ الليل؛ الملائكة ـ الشياطين؛ نشيطٌ ـ كسولٌ؛ للعبودية ـ للحرية؛ الحزن ـ السعادة؛ الزاهد ـ الجاحد؛ اللص ـ الشحاذ؛ العاشق ـ المجنون؛ القاتل ـ البريء.
وإجمالًا، لم تخرج القصائد عن موضوعات: الحنين؛ الحب؛ الخيبات؛ الذكريات؛ الموت؛ العزلة، لتلتقي أخيرًا عند نقطة العودة للتشبث بالحياة، حيث الفناء الجميل: وافتحي الأبواب/ حتى ولو كان الموت يتربص فوق شفاهنا/ وافردي ذراعيك/ لتعرفي أن الأمان الساحر/ أن نفنى على هذه الصورة).

*كمال أبو النور:* شاعر مصري، خريج كلية دار العلوم في جامعة القاهرة. يعمل كبير معلمين في وزارة التربية والتعليم المصرية. من شعراء جيل التسعينيات. اختفى عن الساحة الأدبية في مصر لأكثر من عشرين عامًا، ليعود في عام 2017 بأول دواوينه: “موجات من الفوبيا” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تبعه “قفزة أخيرة لسمكة ميتة” عن دار العين (2018)، و”شجرة في قلب ذئب” (2022).

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *