عقدت اللجنة العلميَّة المنبثقة عن اللجنة التحضيريَّة لمؤتمر حوار الأديان بين جُمهوريَّة العراق وجانب الفاتيكان، اجتماعها الثالث لحوار الأديان ، وعن الاجتماع الأول بين دواوين الاوقاف في العراق والمجلس البابوي في دولة الفاتيكان، الذى عقد في دورته الاولى في العام 2013 في الفاتيكان و الثانية في العام 2017 أيضا بالفاتيكان، حيث نوقشت التحديات التي تواجه ابناء الديانات وتم الاتفاق على موعد عقد المؤتمر بنسخته الثالثة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، والذي اعتمد عنوان ” التربية السليمة للأجيال الصاعدة: طريق السلام والتنمية الشاملة”، كشعار له. وأحتضنه هذه المرة العراق عملا بقاعدة التناوب رغم الظروف السياسية والأمنية التي تمر بها البلاد، وعن الأطراف الرئيسية المنظمة للاجتماع الثالث، مثل الفاتيكان مجلس الحوار الديني البابوي الحبري وهو احدى تشكيلات الفاتيكان الرسمية للحوار، ويقابلها من الجانب العراقي الرسمي دواوين الاوقاف الدينية تمثل كافة الأديان.
ولابد من الاعتراف ان المنطقة في حاجة ماسة إلى مقاربة جديدة كحوار الأديان للتغلب على إنهاء الصراعات، لذلك هدفت أجندة الاجتماع الثالث إلى ” تهيئة المعلمين لتأدية رسالتهم التربوية في صنع السلام، ومراجعة المناهج المدرسية لتعزيز ثقافة العيش المشترك”، بهدف طي سجل الحروب والصراعات والتوتر بين الشعوب وفتح افاق الاخوة الانسانية والتعاون القائم على تقبل الاخر والتسامح في ظل المشتركات التي اوصت بها الاديان السماوية .
ويمكن إن يلعب العراق فيها دور محوري نظرا لكونه بلد متنوع ومتسامح، فضلا عن إن شعبه على تماس مع الترك والفرس والقوميات الأخرى، إضافة لموقعه الجغرافي، وهذا يمنحه دورا رياديا في تعزز الحوار. إلا انه وبالرغم من أهمية هذا الحدث على مستوى العراق والمنطقة التي تشهد حراكا كبيرا في هذا الاتجاه، لم يحظى بتغطية إعلامية مناسبة، حيث شهدت فعاليات الاجتماع على مدار يومين والثالث زيارات ميدانية عموما ، وحفل الافتتاح على نحو الخصوص غياب اي وسيلة اعلامية محلية او اجنبية وتم الاكتفاء بجهة واحدة لم تتمكن حتى من ادارة عملية توزيع الخبر اعلاميا. هذا بالرغم من حضور ممثلين عن الحكومة العراقية وشخصيات دبلوماسية والسيد رئيس ديوان الوقف الشيعي وممثلين عن الاوقاف السنية والمسيحية والصابئة واليزيدية، اضافة الى ممثل اوقاف اقليم كوردستان فضلا عن ضيوف آخرين من الجانبين العراقي والفاتيكاني، و ربما يعود هذا الغياب الاعلامي الى ضعف التنسيق بين الجهات العراقية من جهة، وعدم الدقة في توقيت انعقاد هذا الاجتماع، اذ توافق انعقاده مع انعقاد مؤتمر القمة العربية في الجزائر.
وناقش الاجتماع الثالث لحوار الأديان موضوع التربية والتعليم ودورهما في تحقيق السلام والتنمية المستدامة، من خلال ثلاثة محاور ( الطريق نحو مناهج تعليمية معتدلة وعادلة، خطة لعمل المعلم التربوي لإعداد معلمين ، ومناقشة بنود الميثاق التربوي العالمي) ؛ والمحور الثالث والأخير هو مشروع الميثاق التربوي العالمي الذي اطلقه البابا فرنسيس والذي توقف نتيجة ازمة كوفيد 19.
ومن خلال اللقاء مع الوفد الفاتيكاني؛ التمسنا مدى انعكاس الازمة السياسية والأمنية في العراق على تعاطي الوفد الفاتيكاني مع رغبة العراق في انعقاد الاجتماع في بغداد، فقد كان الوفد حريصا على تحديد حركتهم خارج مكان الاجتماع والذي كان في نفس الوقت يمثل مقر اقامتهم، كما انعكس على مستوى التمثيل الفاتيكاني اذ لم يضم في عضويته سوى أربعة اشخاص من خارج العراق احدهما رئيس الوفد وهو سعادة سفير دولة الفاتيكان في بغداد المطران ميتا ليسكوفار ، والمونسنيور خالد عكشة رئيس لجنة العلاقات مع المسلمين في المجلس البابوي للحوار بين الاديان، والاخرين من جمهورية لبنان، اما باقي اعضاء الوفد فهم من رجال الدين وأساتذة جامعات عراقيين .
وبالرغم من المحاور الثلاثة التي ناقشها الاجتماع والتي يمكن اعتبارها محاور دولية لا تختص بالبيئة العراقية فحسب (والتي سيكون لنا وقفة عندها في مقال لاحق ان شاء الله) الا ان هذا الاجتماع كشف عن بعض الامور التي ينبغي الوقوف عندها ومناقشتها على الصعيد المحلي.
أولها ؛ تأتي مسالة استمرار المخاوف لدى المكون المسيحي من عملية الاستهداف للوجود المسيحي في العراق، والتي يرى البعض من اعضاء الوفد الفاتيكاني بانها عملية تكاد تكون منظمة، وهو ما تحاول تصويره بعض المنظمات الغربية المهتمة بالأقليات المسيحية في الدول الاسلامية كمنظمة الابواب المفتوحة الالمانية والتي اشارت في تقريرها السنوي للعام 2022 الى تراجع العراق ثلاثة مراتب عما كان عليه في العام 2021.
للوهلة الاولى ربما يكون لهذه المخاوف نسبة من القبول نتيجة الأزمات الأمنية والسياسية بعد عام 2003 وحتى عام 2014 وسيطرة تنظيم داعش الارهابي على الموصل، الا ان ردود أفعال المؤسسات الحكومية والدينية، والاجتماعية تجاه هذه الاحداث يمكن ان تساهم في تحقيق نسبة من الاطمئنان بتراجع عمليات الاستهداف الديني والطائفي، خصوصا وان هذا الاستهداف لم يكن موجها للمسيحيين فقط في تلك المناطق وانما طال هذا الاستهداف جميع المكونات العراقية في تلك المناطق. ومما يؤيد هذا التراجع في لاستهداف المكون المسيحي بيان مفوضية حقوق الانسان العراقية والذي اشار الى ان “40 % من المسيحيين عادوا من الإقليم ( اقليم كوردستان ) إلى مدنهم الأصلية مثل سهل نينوى بعد تحرير مناطقهم من تنظيم داعش.
ثانيًا؛ كان لزيارة البابا الاخيرة الى العراق الاثر الكبير في هذا الصدد كما جاء في تصريح الاب رائد علي مسؤول كنائس السريان الكاثوليك من أن زيارة البابا للعراق ساهمت بلفت أنظار المجتمع الدولي والمنظمات الدولية التي كانت لها مساهمات جيدة بإعادة اعمار الموصل والكنائس المدمرة، وربما نجزم في هذه النقطة بان الزيارة قد حققت أهدافها، ولو أنه كنا نأمل نتائج أكبر تساهم بتخفيف موجات هجرة المسيحيين وإعادة العوائل لمركز مدينة الموصل. وحسب قول الكاردينال ساكو؛ والذى اكد على ان زيارة البابا للعراق قد غيّرت نظرة الشعب العراقي تجاه المسيحيين وازداد مستوى الاحترام لهم منذ تلك الزيارة على نحو كبير مع تعزيز حالة التعايش ما بين الاطياف والاعراق الدينية المختلفة، وكانت فرصة ثمينة للعراق ونقطة تحول في انفتاحه على العالم
المسالة الثالثة؛ التي كشف عنها الاجتماع هي ضرورة التمييز بين الثابت والمتغير لدى الديانات المتحاورة، وهو ما اكد عليه بعض المتداخلين من الطرفين في مناقشة بعض القضايا التي يمكن اعتبارها جزءا من العقيدة الدينية لدى اتباع الديانات، اذ من الامور التي اتفقت عليها الآراء هي ان في كل ديانة مجموعة من الثوابت التي تمثل جوهر كل ديانة والتي لا يمكن المساس بها او الاقتراب منها، والتي يمكن اعتبارها نقطة الاختلاف الاساسية والجوهرية والحد الفاصل بين كل ديانة من الديانات، هذه الثوابت المختلف عليها لابد ان تسعى جميع الاطراف الى الحذر من تحولها الى نقطة خلاف، بل يجب ــ في الظروف الحالية ــ احترامها والوقوف عندها باعتبارها تمثل وجهة نظر الاخر في عقيدته الدينية، وهي الوجهة التي يعتبرها جزءا من عقيدته الدينية، فالحوار بين الاديان يعني في جوهره محاولة تفعيل المشتركات بين اطراف الحوار من جهة، ومن جهة اخرى تجاوز نقاط الاختلاف باعتبارها تمثل جزءا من الهوية الدينية التي يكون التنازل عنها بمستوى التنازل عن العقيدة الدينية ان لم يكن هو التنازل بعينه.
ومع غض النظر عن هذه الامور التي اثارها المتحاورون في اجتماعهم الا انه لا ينبغي تجاوز البعد الايجابي لهذا الاجتماع وخصوصا المستوى العالي في الحوار والذي كان يتسم بالمرونة، والانفتاح والقبول، وهذا البعد الايجابي شكل ركيزة اساسية لتمسك كلا طرفي الاجتماع بضرورة تكثيف الجهود للعمل سوية على تجاوز اثار المرحلة السابقة، والسعي الحثين للانطلاق نحو التأسيس لبرامج العمل المشتركة الهادفة الى توثيق اصار المحبة والانسجام بين مكونات المجتمع العراقي، وهو ما دعي في البيان الختامي الى ضرورة تقليص الفترة المحددة لكل اجتماع من ثلاث سنوات الى سنتين.
وللحديث بقية