الحلقة الأولى
وبيان ذلك أن الملك والتملك والحكم والتحكم، والولاية والتولية إما أن يكون على الإطلاق أو بالتقيد، فمالك يوم الدين الرحمن الرحيم مطلقا هو الله الذي لا إله إلا هو الذي كل شئ ملكه ومملوكه، وهو الرب الذي تفتتح الفاتحة بحمده وتعديد صفاته، وتختمها بالتضرع إليه، وأما الحاكم في ذلك اليوم بالولاية عن أمر الله ورسوله أمير المؤمنين وذلك لأن ولايته حبل ممدود وعهد مأخوذ من الأزل إلى الأبد غير محدود، فهو لما كان مالك الدنيا وأهلها، وحاكمها ووليها، فكذا هو مالك الآخرة وحاكمها ووليها، لأن ولايته عروة لا انفصام لها، ودولة لا انقضاء لها، وإليه الإشارة بقوله: (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) وهو ولاية علي وحكمه لا انقطاع لها، دليله قوله سبحانه: (أليس الله بأحكم الحاكمين)، قال علي بن إبراهيم في تفسيره: أمير المؤمنين أحكم الحاكمين، فهنا إطلاق وتقييد، أما أمير المؤمنين عليه السلام فهو حاكم يوم الدين ومالكه وواليه، وصاحب الحساب عن أمر الله وأمر رسوله، ومالك يوم الدين مطلقا من غير تقييد ولاية، ولا إذن والله رب العالمين رب الدنيا والآخرة، وإله الدنيا والآخرة، وخالق الدنيا والآخرة.
____________
( 1) البقرة: 256.
(2) التين: 8.
وهذا مثل قول المتكلم: الله واجب الوجود حي، والإنسان حال وجوده أيضا واجب الوجود حي، فأشركا في لفظ الوجود وامتازا بفصل الإمكان والوجوب، فالرب سبحانه حي واجب الوجود لذاته، والإنسان حي واجب الوجود لغيره، فكذا إذا قلنا علي مالك يوم الدين وحاكم يوم الدين، وأنت تعلم أنه ولي الله وخليفته، والولي له الحكم فلا يحتاج العقل السليم إذن مع معرفة الحكم المقيد إلى قرينة أخرى.
(تنبيه) كما أنه إذا قيل: فلان مالك ديوان العراق وحاكم ديوان العراق على الإطلاق، فيذهب العقل السليم إلى أنه هو السلطان ولا يحتاج إلى قرينة أخرى تميزه بل إطلاق اللفظ يدل على أنه هو الوزير وصاحب الدفتر، وكذا إذا قلت علي مالك يوم الدين، فلا يذهب ذهن المؤمن الموحد العارف بالله، إلى أن عليا هو الله لا إله إلا الله، بل إنه ولي الله، والولي وهو الوالي فله الولاية والحكم بأمر الله الذي حكمه وولاه، وفوض إليه أمره وارتضاه، فيا عجبا كيف يرضاه الله وأنت لا ترضاه (أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله)، ثم تدعي بعد ذلك أنك تعرفه وتتولاه، وأنت والله الكاذب في دعواه، فأنت كما قيل:
(ويدعي وصلها من ليس يعرفها * إلا بأسمائها في ظاهر الكتب)
فأنت في أمر علي لم ترض برضى الله، ومن لم يرض برضى الله، فعليه لعنة الله، ألم تعلم يا منكر الحق بجهله ومدعي العرفان وليس من أهله أن الدنيا والآخرة لهم خلقت، وبهم خلقت، ومن أجلهم خلقت، وإليهم سلمت، والله غني عن العالمين، وما هو بهم ولهم ولأجلهم، فهو مالكهم وملكهم من غير مشارك ولا منازع، وثبوت ذلك من قول المعصوم، ووجوب تصديق قوله واعتقاده، لأن من رد على الولي فقد رد على الرب العلي ومن رد على العلي كفر، فمن رد على الحجة المعصوم فقد كفر، فها قد صرح الدليل أن من أنكر ولاية علي وحكمه في الدنيا والآخرة فقد كفر، ومن أنكر أحد الطرفين فهو واقف بين جداري الكفر والإيمان، فإما أن يعتقد الطرفين فيؤمن، أو ينكر الطرفين فيكفر، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل قال له: أنا أحبك وأهوى فلان، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنت الآن أعور فإما أن تعمى، أو تبصر ؟ (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)، (وما أنت عليهم بمسيطر).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) بحار الأنوار: 27 / 78 ح16.
وبيان هذا البرهان أنه تعالى أمر نبيه يوم الدار أن يجمع بني عبد المطلب ويدعوهم إلى الله، فمن سبق منهم إلى تصديقه وأجاب دعوته وصدق رسالته، ورأى نصرته، كان له بذلك أربعة عهد من الله ورسوله، ويكون أخاه وصهره، والحاكم بعده فما أجاب دعوته غير علي فبايعه ونصره وفداه، ووفى بعهد الله فخاض في رضاه الحتوف، وقتل في طاعته الألوف، وكشف عن دينه الكربات وكسر الرايات، وأخرج الناس من الظلمات، ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله تواثبت الضباع على الأسد المناع، والولي المطاع، فعوت على الهزبر الكلاب، وصار ملك أبي تراب، الذي صفي سبحانه بحد الحساب، والقرضاب، إلى… الذي لم يحمر له حسام يوم الضراب، ولا مر في ملمة وخاب، ولم يدع إلى كريهة فأجاب. فوجب في عدل الكريم الوهاب، من باب (أوفوا بعهدي أوفي بعهدكم) أن يوليه يوم القيامة عوضا عن حقه الممنوع في الدنيا حكم يوم الحساب، وإليه الإشارة بقوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله)) لأن المواهب الربانية والتحف الإلهية، إما أن تكون استحقاقا أو تفضلا، وكلاهما حاصلان لأمير المؤمنين عليه السلام، أما الاستحقاق فإن الله أوجد فيه من الأسرار الإلهية، والقوى الربانية، والخواص الملكية ما لم يوجد في غيره من البشر، حتى تاه ذو اللب في معناه وكفر، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله: (خلقت أنا وعلي من جنب الله ولم يخلق منه غيرنا) وجنب الله معناه علم الله، وحق الله له كإحياء الأموات والأخبار بالمغيبات، وتكلم أذياب الفلوات، وإغاضة ماء الفرات، ورجوع الشمس له بعد الغياب، وإظهار وإيراد المعجبات، وأما التفضل فإن الله يختص برحمته من يشاء، ففرض الله إليه وأمر العباد وجعله الحاكم يوم المعاد، فهو حاكم يوم الدين، ومالك يوم الدين، وولي يوم الدين، ولا ينكر هذا الحق المبين، إلا من ليس له حظ من الإيمان واليقين، ومن لا إيمان له كافر فوجب على من شم حقائق الإيمان استنشاق نسيم أزهار هذه الأشجار، والتصديق لهذه الآثار، ومن أنكرها ولو حرفا منها فقد عارض زكام الكفر خيشوم إيمانه فليداووه بسعوط التصديق، ولكن ذاك في حقق التحقيق، ومن أعرض عن واضح الدليل، فقد ضل عن سواء السبيل.
________________
( 1) كذا في النسخة الخطية، في المطبوع بلفظ مسلم.
(2) هود: 3.
(3) في بحار الأنوار: (خلقنا الله جزءاً من جنب الله) ـ 24 / 192 ح8.