الدراسة ضمن ملف خاص عن الشاعر سيف الرحبي أعدّته ونشرته مجلة الفيصل

1-
سأطلق على قصيدة سيف الرحبي تسمية موجزة ودالّة : قصيدة المشهد البصري، ذلك أنها تتقدم للقراءة عبر هذه التقنية التي اقترحتها الحداثة الشعرية في مراحلها التالية للرواد، وخصوصاً منذ الستينيين والجيل التالي لهم الذي ينتمي إليه سيف الرحبي(1956-).
لقد ازدحمت المرائي في مخيلته وتغذت بما اختزنه بصرياً من مشاهد غنية بالتفاصيل التي وجد نفسه داخلها، بل مراقباً لها وهو يعيشها .وقد منحه ذلك قدرة على استحضار الأمكنة بجزئيات يشكل وجودها الشعري عنصرا الترقب والرصد البصري الممتزج بمشاعر مسقَطة على تلك الأمكنة.و من ثم تغدو الموتيفات التي يجمعها في القصيدة متسلسلة عبر زاوية نظر موازية للمنظور التشكيلي.فتلك المَشاهد فضلاً عن هويتها البصرية تتقدم باسترسال لا يحكمه رابط لغوي صارم ولا حدود أو نهايات ، وتتجاور فيه الأشياء متضادة أو متناظرة في هارمونية وإيقاعات خاصة تحيل إلى لوحة شعرية مبصَرة، أكثر منها قصيدة لغوية الأداء.
إنها تثير من جديد علاقة الشعر بالتشكيل التي كانت من ثمار الحداثة الشعرية وانفتاحها على الأجناس والأنواع.حيث تمَّت عملياً فرضية التداخل النصي بين الأجناس والأنواع ما يمكن تسميته بالتناص النوعي أو الإجناسي.
ولما كانت قصائد سيف تتوسل السرد كميزة لقصائد النثر ، فإنها تعتني كذلك بالمشهد وعناصره التشكيلية بشكل متواتر يدعو للتحليل والرصد عند القراءة .
وهذه العناية بالبصري في القصيدة واعتماده أساساً في التوصيل، يأتي من خزين بصري موازٍ تحفل به القصائد .وترد معضدات له وبطاقات قراءة مساندة من تفوهات سيف في مقالاته، والكِسَر السيرية التي دوَّنها عن حياته وبيئته ،والمرائي التي شكّلت وعيه الأول وصلته بالمكان .
لقد درجنا أن نبحث في قصائد النثر عن تعيين مكاني وتحيين زماني، حيث يستعين الشاعر بقدرته على استحضار العناصر المكانية في ترتيب خاص داخل القصيدة ليخلق التكوين المقصود بالمشهد السردي-المكاني، وهو يُسقط على المشهد رؤيته المتكونة من وعيه به ، ثم يتعزز التعيّن المشهدي- المكاني بالتحيين الزماني، وهو جناحٌ موازٍ للمكان، يعمل على تأطير العناصر المكانية بذاكرة زمنية ،تستحضر المفردات أو العناصر التي تقوم بتحيينها لإنجاز مشهد غائب يمتلك حضوره في هذه العلاقة بين غياب العنصر كفعل ، وحضوره كمفردة شعرية ضمن مفردات القصيدة. وسيكون لعلاقات الغياب والحضور أهمية كبيرة في قراءة قصائد سيف.

ولكن زمانية الفن الشعري تختلف في المعالجة البصرية لموضوعها دون شك ؛ لأنها ليست معاينة مكانية كما في الرسم .ولذلك تتجاوز الصورة بمعناها التقليدي وعناصر التشبيه المألوفه؛ لتبتكر سلسلة خيالية تقتات على منظور تصممه الذاكرة ،ولكن الكلمات والجمل الشعرية تنزاح عنه إلى ما يوحي به كأثر. وهذه الإنزياحات تمثل طريقة في النهايات التي تقترحها قصائد سيف على قارئها كما سنبين.

2

تنبني قراءة قصيدة سيف الرحبي على هذين المركزين المتجاذبين فيها:
أ- استدعاء عناصر المكان من الذاكرة ودمجه بالحاضر الماثل ثم دفعه إلى مشهد بصري متكون من تلك العلاقات المتوترة بين الذاكرة وما تعنيه من موجودات ودلالاتها ،وبين الإبتعاد عنها والإنغماس في حاضر مؤسٍ وحزين يقرب من الإغتراب، وهو ليس غريباً عن مجال اشتغالات الشعر الحداثي في مراحله التالية للكتابات المبكرة في الشعرية العربية.
ب – إقامة أو تأثيث المشهد البصري بالعناصر اللونية المنبثقة من انعكاسات وجود الأشياء في النص، والظلال المنبثة في المسكوت عنه او المغبّب ، والخطوط المتكونة داخل العمل كآمتدادت أو تمددات للمخيلة .والتأكيد على خلفية العمل ونهاياته المفتوحة ، وكأنها لوحات بلا أطر أو حدود ، مشرعة على شتى إمكانات التأويل عند المعاينة البصرية. والأهم من ذلك موقع الشاعر في معاينة المشهد لتمثله ثم إعادة تمثيله نصياً. وهو من آليات الإستيعاب البصري، وتشبه إنجاز أو تحديد المنظور في اللوحة، واتخاذ هيئة مناسِبة لرؤية المشهد تتنوع بحسب زاوية النظر.
وسأمثّل لذلك ببعض أبياته:
يذوب المشهد في رأسك /كما يذوب السكّر بين شفاه عذراء/خلَّفها الطوفان
وقد استخدم المشهد في نص بصري قصير، يفيد عنوانه ( الغرباء في مرآة المكان) بوجود الوعي التصويري البصري، لا القائم علىى آليات البلاغة المألوفة:
– كانت البواخر تعبر المضائق باتجاه برمودا، البواخر التي تحمل الجرحى والمهجّرين
كان يرقب المشهد ، كان كمن يرقب المشهد والضباب،كانت البواخر التي تبحر في أعماقه وحناياه.
لكن سيف يوسّع المشهد، ويصرح به في آخر بيت في قصيدة ( مدينة تستيقظ):
تستيقظ آخر الليل،
تُلقي نظرة على الشارع الخالي، إلا
من أنفاس متقطعة، تعبره
بين الحين والآخر.
وحده النوم يمشي، متنزها بين
قبائله البربرية،
تتقدمه فرقة من الأقزام.
وهناك رؤوس وهمية تطل من النوافذ
على بقايا الثلج الملتصق بالحواف وكأنما
تطل على قسمتها الأخيرة في
ميراث الأجداد.
المصابيحُ تتدافع بالمناكب، قادمة
من كهوفٍ سحيقةٍ
لا تحمل أي سر.
السماء مقفرة من النجوم
الجِمالُ تقطع الصحراء باحثة
عن خيام العشيرة
القطاراتُ تحلُم بالمسافرين.
لا أحد… لا شيء…
أغِلقِ الستارة
فربما لا تحتملُ
مشهدَ مدينةٍ تستيقظُ.
لقد حمل النص مواصفات المشهد كلها: البداية باليقظة ثم التفاصيل ( النوم، الرؤوس
الوهمية ، المصابيح، السماء، الجِمال ، القطارات ثم الخلاء: لاأحد. فتنغلق الستارة تحاشياً لمشهد كهذا(مشهد مدينة تستيقظ) .وهو فعل لم يحصل دلالةً على هجاء المكان الذي يرتهن عالمه بالسكون، وكل شيء فيه خاوٍ ومطفأ ومقفر.
وفي نص آخر سنجد تجسداً لحركة جماعية لمهزومين مخذولين بزمنهم الذي يعيشون، فيكون مسار سيرهم عناءً، كما يسير الجنود الأسرى العائدون من الحرب أو الذاهبون إلى سجونهم.فهم:
يحملون الأيام الثقيلة
يجرجرونها كسلاسل السجين
هي التي حملتهم عبر غابات عصية
وجبال تسرح في أمدائها أحلام الوعول

3-
سأذكّر هنا بالمهيمنة التشكيلية أو المشهدية البصرية في نصوصسيف الرحبي ، وأنه يبث رسائله البصرية بطرق شتى،تعقبتُ بعضها وحصرته في كيفيات، تؤشر لهذا الحس الذي أزعم وجوده مشغِّلاً مهماً في الكتابة الشعرية لديه ،وفي فعل القراءة بالضرورة.
ومن ذلك :
– مشاكلة البورتريه المعروف في الرسم بنوعيه الشخصي للفنان ذاته، والغيري لشخصيات يرسمها. وسأتوقف عند نماذج وضع لها في العنوان وصف( بورتريه). والعنوان كما نعلم في برنامج القراءة والتلقي من عتبات النص، ومن أهم موجهات قراءته .ولدى سيف من النوع الثاني : بورتريه ل(سرور) وهي القرية التي ولد فيها.وهي تصلح لمقايسة مدى المشاكلة لعناصر البورتريه ومكوناته، وما جرى عليها من تعديل. وثمة بورتريهات لأصدقاء حاول أن يستعير آليات الصور المرسومة لهم بشواخص شعرية يؤطرها الخيال.كهذالبورتريه ليوسف الخال الذي يدلنا العنوان عليه :
يوسف الخال.
– أما زلتَ بهيئتك الأبوية-
تقرأ صحف الصباح
وتحاور الأصدقاء؟
ميمماً وجهك شطر المغيب
– واستخدام النظر وسيلة لتوصيل الدلالة، كما في عنوان قصيدته(أُسرح النظر)، وفيها هذا المقطع الذي يؤكد أن محصول النص متأتٍ من النظر للأشياء لآحتوائها زمانياً ومكانياً في سطح القصيدة و متنها الصوري:

– أُطلق سراح النظر الى آخره
فأرى القوم على المواقد
يرتبون الأيام والشعاب
أمام شمس نازفة في العيون
صامتين ثكالى
يخبط الموج أقدامهم

– المنظور المحدد دوماً بميزة خاصة هي كونه يبدأ من الضيق إلى المتسع، أومن الصغير المحدود إلى المطلق اللانهائي.. من اليقظة المموهة بالنعاس أو الصبح غير المكتمل ضياءً .وزاوية المنظور من (النافذة) غالباً. أي من بؤرة بصرية تسمح بتحديد المرئي للتعبير عنه بطريقة ما ، بتسميته مثلاً كما في قصيدة (أمام النافذة):

مأخوذاً بجلبة الشارع
بنداء الباعة وصراخ الشحاذين
والبكاء المر لسكارى منتصف الليل.
الحوذيُّ يجر عربته أمام الغيم
والجزار يفقأ عين الضحية،
بسكين يبزغُ من يده ملتهما
مسافة المكان بين غرفتي وعنق
الخراف.
كذلك الرعودُ وهي تنقر نافذة
بيتي ليل نهار مثل طيور الوادي
مبشرةً بمقدم ضيف
ربما لن أراهُ بعد اليوم

و قصيدة (نافذة):
ليس أمامك سوى هذه النافذة
التي يطل منها الأطفال
نحو حربٍ جديدةٍ
غير هذا الأفق الذي يسقطُ
بين قدميك
مغمياً عليه
ليس أمامك غير هذه النافذة

– المشهد الساكن القريب من الطبيعة الصامتة حيث يراقبه الشاعر من الأمام ليرصد إيحاءاته وانعاكاسته الشعورية عليه. مثال ذلك:
المرآة النائمة على الكرسي في بهو الفندق،أيّ هناءة تجرفها في هذه الإستراحة العابرة.
– المنظر الطبيعي (لاند سكيب) : ويختار له سيف الأوقات غالباًـ لاسيما الصباح -وقت اليقظة ومواجهة العالم وإحصاء أخطاء الأمس أو خساراته،والغروب كتنوع للزوال والسير نحو النهايات بأسىً وخوفٍ أحياناً، ها هو الغروب مثلاُ في نص ( ضياءُ نجمةٍ في غابة)، حيث نلاحظ انعكاس الغروب كدالٍّ طبيعي على الأمكنة التي تضم البشر ضمناً ، ويعكس عليهم مدلولاته وأبرزها الموت والإنتهاء.:
غروبٌ على دير الراهبات
يسيل شبقاً على النحور والشفاه
غروبٌ على ثكنةٍ للعسْكر
غروبٌ على ضفاف الأحلام
غروبٌ على مكبّرات للصوت
تنعق بالكوابيس والوعيد
غروبٌ على الصبايا المراهقات
يتقافزن على حبال الأمنيات
غروبٌ على المقابر والجوامع والإسطبلات
غروبٌ على الشعراء والعُشّاق
على الجلادين والسجون
غروبٌ يحمل البلاد إلى حتفِها
في مقبرة السُلالات..
***
بعد قليل: تذهب الأشجار الى غروبها
تعانق الظِلالَ
والأشباح.
***
القرويّات يحملن الغروبَ
في جرار الفخّار على الرؤوسِ
والأكتاف
– احتشاد التفاصيل تماماً كما في اللوحات :
وهي سمة تنقذ النص من رتابة السرد. ومنها تداعيات النص السابق (ضياء نجمة في غابة) .كالتداعي من الغروب على المكان إلى تفاصيل المكان ذاته من الداخل(غروب على الدير…) ،ثم الإستطراد(يسيل شبقاً على النحور والشفاه). وممكن التوقف عند التفصيل ومعاينته مكبراً، كما في معاينة اللوحات الزاخرة بالتفاصيل .
– النهايات المفتوحة كما يرشحها المشهد البصري – وهي تقنية تقترب من التجريد الذي لا يحدد سرداً ذا بداية ونهاية في اللوحة.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *