تواجهك في يومك الكثير من المظاهر السلوكية التي تبدو بسيطة ، وقد لا تستوجب في نظر البعض التوقف عندها مليا ، ولكنها قد تنطوي على دلالات خطيرة ، وربما يتهمك البعض بأنك تحمّل الأمور أكثر مما تحتمل ، ومنهم من يصدمك بقوله : هكذا هي الحياة يا رجل ، ليست سوى صراع ، والبقاء للأقوى كما يقول دارون صاحب نظرية التطور ، والذي لم يكيّف نفسه مع هذه الحال تسحقه سنابك الخيل لا محالة ، هذا ما يتبادر الى ذهنك ، فيتسلل الاحباط واليأس الى دواخلك ، بينما تحلم بعالم يتيح للضعفاء البقاء أيضا الى جانب الأقوياء ، متنعمين بحياة منحها الله تعالى للناس مرة واحدة ، ومتحررين من قلق المستقبل . لا نريد للحياة أن تتحول الى غابة يأكل قويها ضعيفها ، ويتقدم سخيفها على مؤدبها ، ويديرها فاشلها وليس كفوئها ، لكن بلوغ عالم بمثل هذه الأوصاف يثق فيه المرء بأخيه ، ويعيشان تحت سقف عادل مقترنا بشعور المواطنة ، لا يأتي اعتباطا بترك الامور سائبة تتشكل عشوائيا ، بل بحاجة الى رؤية وتخطيط ، وتفكير وعمل ، واخلاص ومحبة .

كل ذلك راودني وأنا أُخضع بعض المظاهر للملاحظة الشخصية لأستشف منها بعض المعطيات ، فالنظريات انطلقت من أفكار وملاحظات بسيطة الى ما هو أعمق ، ومثالها نظرية ( الاستجابة الشرطية ) للعالم الروسي ايفان بافلوف في تجربته الشهيرة على الكلاب ، والصناعات المتطورة انطلقت من صناعات أولية ، فالوصول للذرة لا بد أن يبدأ من معمل لحليب الأطفال وآخر لمعجون الطماطة ، لذلك أقول : ان الأهداف الكبيرة التي تتطلع الى تحقيقها تبدأ من ترتيب سرير منامك ، وبعكسه لا تظن انك محقق لأهدافك ، ذلك ان حرق المراحل ليس بالضرورة طريقا سليما لتحقيق الحلم ، فالتنظيم يقف وراء كل عظيم ، ويقتضي تضيق مساحة الغابة والقضاء عليها أن نعمر الانسان ، ذلك ان اعمار الانسان أولى من اعمار البنيان ، بديهيات اضطررنا لتجديد الحديث عنها ، وذلك من بين مؤشرات تردي الحال .

على مدى سنوات وبشكل يومي ، أقف عند نهاية زقاق سكني أنتظر السماح لي من سائقي المركبات بسلوك شارع فرعي من دون مزاحمة ، في البداية كان يسمح لي بالمرور بعد مركبتين ، وتصاعد العدد الى أربعة مركبات ، وفي الخامسة يعطيني أحد الأخيار فرصة المرور ، وحاليا ازداد عددها الى سبعة مركبات ، وغالبا لا يُسمح لي ، وبالرغم من وجود مسافة كافية تفصلني عن مركبة قادمة ، الا ان سائقها يزيد من سرعة مركبته لكي يفوز بمنعي من المرور ، وانتهيت الى انه علّي مزاحمتهم والمخاطرة بحياتي لكي أحصل على حقي ، مؤسف جدا أن يتطلب الحصول على الحقوق المجازفة بالحياة .

معروف ان العلاقات بين البشر والدول تحكمها ثلاثة مبادىء : التعاون والتنافس والصراع ، ويعد التعاون السمة الغالبة في المجتمعات الواعية ، أقول السمة الغالبة ، فلكل قاعدة استثناء ، ولا وجود لمجتمع مثالي خال من السيئين والجاهلين وغيرهما . والتنافس قانون للرقي ، لا ارتقاء بلا تنافس شريف ، ولكن عندما يتجرد التنافس من شرفه يتحول الى صراع الذي ان ساد صار المجتمع شبيها بالغابة التي يحذر الجميع فيها من الافتراس ، وليس في الذهن سوى حماية النفس بأي طريقة كانت . وقارب الفكرة في ذهنك عندما يرن هاتفك في ساعة مبكرة من الفجر ، فليس أمامك سوى قراءة ما تيسر لك من الآيات والأدعية لينجيك الله تعالى من ( التائهات ) التي يزداد عددها يوما بعد آخر ، ويسقط ضحاياها أبرياء كثر .

أستنتج من الملاحظة التي ذكرتها غيابا يكاد أن يكون تاما للتعاون ، ولا يمكنني وصف ما حدث بالتنافس ، لأن ما جرى يفتقد للذوق والحق وتفهم مواقف الآخرين ، وبالتالي فهو صراع ، ما يعني شيوعا للروح العدوانية فرضتها أزمات خانقة يتعرض لها المجتمع ، وأول ما يجب القيام به لكبح جماح هذه الروح هو اعادة النظر بعمليات التنشئة الاجتماعية ، ماذا تقولون ؟

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *