يلومني البعض لاستعمالي اللهجة العامية ، ويذكّروني بحرصي الشديد على اللغة الفصيحة ، ألم يكن حماسك لافتا في دفاعك عن رسالة طالبك الذي تناول تأثير الفيس بوك في اللغة العربية يوم قلت ان ( 250 ــ 300) لغة تموت سنويا في العالم ؟ ، كل ما تقولونه صحيح ، فلست من أنصار العامية ، ولا أستطيع التعبير عن أفكاري من خلالها بدقة ، وعلى مضض أستعير بعض مقولاتها ومفرداتها وأمثالها في أعمدتي الصحفية ، ومنها عنوان هذا العمود ، فبعض المعاني لا تمس شغاف القلب او العقل الا اذا قيلت كما هي متداولة بين الناس ، ذلك ان تحويل بعض الكلام من اللغة الفصيحة الى العامية او بالعكس يفقده الكثير من معانيه ، مثلما تنحرف دلالته عندما يُقال بعيدا عن سياقه ، لذلك ترانا لا نتذوق بعضا من الشعر المترجم لقوله في بيئة مغايرة لبيئتنا ، الا اذا توافر له مترجم بارع ، متمكن من اللغتين ، متيحا لنفسه مساحة من الحرية في التصرف ، فيتمكن بهذه المهارات من فتح النوافذ لنفهم ما يقوله الآخر الأجنبي ، وتحسس ما يجول في دواخله من مشاعر ، فلا أستمتع بمسرحيات شكسبير الا اذا كانت من ترجمة جبرا ابراهيم جبرا ، ولا أثق بالإطلالة على الغرب الا من نافذة جورج طرابيشي ، ولا أتلذذ بتأمل المعاني الفلسفية الا بعيني عبد الرحمن بدوي ، ولا أستوعب نظريات الاتصال الا عبر شروحات محمد عبد الحميد ، هذا ما أراه وربما لغيري رأي مختلف ، ولكن بالمجمل ان نوافذنا على الغير مازالت قليلة ، وتسوء يوما بعد آخر ، حتى وصل الأمر الى عدم اكتمال فهمنا لمضمون معين في بعض الترجمات ، وهو ما عانيته مؤخرا في قراءة كتاب مترجم يهتم بعلم الاتصال بالرغم من اغراء عنوانه الذي دفعني لشرائه ، مع حرصي على انتقاء أسماء بعينها تأليفا وترجمة ، لكن يحدث أن يُخطىء المرء .

لقد بتنا نسمع مصطلحات ضخمة لم يحسن المترجمون اختيار ما يرادفها ، او يتأمل المؤلفون في تأصيلها ، او يتأنى الأكاديميون في اطلاقها ، أحيانا يُراد بها الايحاء بأن صاحبها على قدر كبير من العلم والمعرفة ، والحقيقة انه لا يعرف من الأشياء الا سطوحها ، وغالبا ما ينطلي الايحاء على المستمعين والقراء ، فيبدو عالما في مجاله ، ويحيط به الطلبة من كل جانب ، ويؤسسون على ما يقول ، ويطول بهم الوهم ، ولن يتمكنوا من تبديده الا بعد فوات الأوان ، وبداعي الترفع عن وضعهم في مواقف الاحراج ، يتعذر على العارفين ايقافهم عند حدودهم العلمية .

روى لي أحد طلبتي الدارسين في خارج البلاد انه راجع بشأن عنوان رسالته أحد الحاملين لشهادة الدكتوراه ، وقد ذُهل من عدد مؤلفاته التي تجاوزت التسعين كتابا مع ان عمره بحدود الستين عاما ، والسؤال كيف ألف استاذنا هذا الكم من الكتب التي جاء بعضها بأكثر من جزء ، مع التزاماته الوظيفية والعائلية وزحمة مشاغل حياتنا الراهنة ؟ . بينما يحتاج المؤلف العلمي الواحد الى مراجعات عديدة بحكم تعامله مع المفاهيم والنظريات والحقائق .

أهداني أحد المعارف كتابا علميا ، فتصفحته مليا لبريق عنوانه وأهمية مجاله ، واذا بالكتاب لا يشبه صاحبه على الاطلاق ، فلم أسمع منه مثل هذا الكلام في أحاديثه الشخصية او مداخلاته في الندوات والمؤتمرات ، ولم أعرف عنه مزاجا للتأليف ، فأبحرت في سفينة غوغل ، وكانت الكارثة ( بگلاگل ) كما يقول المصريون ، وتبين لي انه من تجميع ( باب المعظم ) ، ولكم أن تفهموا المقصود . خلاصة القول : ليست الرقابة بالضرورة حالة سلبية ، ففيها حماية للفكر والمجتمع ، لذلك أقترح أن تخضع المؤلفات بأشكالها المختلفة لرقابة حكومية صارمة بعرضها على خبراء متخصصين ، وتدوين أسمائهم على المؤلفات لتحمل المسؤولية ، وعدم السماح بدخولها للبلاد ان كانت مطبوعة في الخارج ان لم يُذكر اسم الخبير المشهود له بالكفاءة ، وذلك لكي تشبه الأشياء أصحابها.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *