أعيد هذه الأيام قراءتي لجبران خليل جبران مركزاً على عشقه للحرية ومقته للعبودية. لقد بلغ كره جبران للعبودية أنه تذمر من عبودية روحه لجسده،وعبودية عقله للسائد والمعروف،وعبودية قلبه للعادة والمألوف.
عند الذكرى العشرين لاحتلال العراق توقفت طويلاً محاولاً البحث عن قشة أمل في ركام مآسي الأحتلال،فكانت الحرية (ربما)هي تلك القشة الوحيدة التي أسفر عنها وجه الأحتلال الكالح فحاولت التشبث بها علّها تمنعني من الغرق في لجة اليأس. ولأني أعلم أن جبران هو أحد أقطاب متصوفي الحرية فقد قرأته مرةً أخرى علّني أهتدي أو أجدُ قبساً من النور يعينني في محنة العراق.وسيكون تصنيف جبران لأنواع الحرية مدخلي لذلك.صنّف جبران في مقاله(العبودية)أنواع عبيد الحياة الى عدة أنواع تغص بهم شوارعنا،وتفيض بهم منازلنا،وتمتلئ بهم منصاتنا.والأغرب أن منهم من يعظنا بالحرية،لكنه يكبلّنا بالعبودية!يعتقد أنه حر،ويجهل أنه عبد. يظن أنه متحرر،ويجهل أنه متسوّر. يعيب علينا التشبث بالحرية،ويروج لفضائل العبودية. هاكم عبيد الحياة كما وصفهم جبران:
1.العبودية العمياء. وهي التي توثِق حاضر الناس بماضي آبائهم،وتنيخ نفوسهم أمام تقاليد جدودهم وتجعلهم أجساداً جديدة لأرواح قديمة.هؤلاء هم عبيد العادة ومروجو خطاب (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).
2.العبودية الخرساء.وهي بعكس الأولى يدركها الأنسان لكنه يقف عاجزاً إزاء تغييرها والإنعتاق منها،فتعلق حياته بسلوكيات يمقتها سراً ويفعلها علناً خشيةً من الناس ومناكدةً لحياته.فتصبح حياته حينها بمنزل النعل من القدم يلبسها ليتّقي ألم المسير! انها عبوديةٌ صماء تكره الافراد على أتباع مشارب محيطهم والتلون بألوانه فيصبحون من الاصوات كرجع الصدى. ولأن هذا النوع من العبودية الأجتماعية هو أكثر أنواع العبوديات شيوعاً في مجتمعنا فقد عالجته تفصيلاً بكتابي الذي سيصدر هذا الأسبوع أن شاء الله. هذا النوع من العبودية هو ما يجعل الكثيرين يعتقدون أن العراقي،والشرقي عموماً مزدوج الشخصية،في حين أنه في واقعه مكبل الشخصية. فهو لا يقول الا ما يرضي الناس،ولا يفعل الا ما تقرّه العادات. الجماعة أهم من نفسه،والقناعة هي كنزه.
3.العبودية العرجاء.وهي التي تضع رقاب الأشداء تحت سيطرة المحتالين،وتسلم عزم الأقوياء لأهواء الطامعين بالمجد فيمسون مثل آلات تحركها الأصابع. هذه العبودية شائعة في مجتمعاتنا بحيث تجعل كثير من سراة المجتمع وممن يمكن أن يكونوا قادة أنعتاقه،عبيداً لآيدلوجيات أو أفكار تحجب عنهم نور الحقيقة ولا تجعلهم ينظرون للحياة الا بنظّاراتها المعتمة!
4.العبودية الشمطاء.والتي تهبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتسع الى منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة،والذل بجوار القنوط،فيشبون تعساء ويعيشون مجرمين ويموتون مرذولين. أنها عبودية المادة،وقيد اليأس الذي طالما يشيعه وينميه الجبابرة ويتربى عليه القانتون الأذلاء.
5.العبودية الرقطاء،وهي التي تبتاع الأشياء بغير أثمانها،وتسمي الأمور بغير أسمائها،فتدعو الأحتيال ذكاء،والثرثرة معرفة،والضعف ليناً،والجبن إباء. أنها عبودية الأحتيال الذي بات منتشراً ويتفاخر به الآباء أمام أبناءهم،والسرّاق أمام ضحاياهم.
6.العبودية العوجاء،وهي التي تحرك بالخوف ألسنة الضعفاء فيتكلمون بما لا يشعرون،ويتظاهرون بما لا يضمرون. أنها عبودية السلاح المنفلت،والقيد المنفلت،والثروة المنفلتة،والقوة المنفلتة،والأسواط المنفلتة التي تعقد ألسنة العبيد،وتكتم غضبهم،وتبرر ظلمهم.
7.العبودية الحدباء. وهي التي تقود قوماً بشرائع قوم آخرين. فعبيد الشرق مكبلين بأغلالهم ينطرون شروق شرقهم ليتحركوا.وعبيد الغرب مقيدون بغروبهم حيث لا مسير ولا تقدم الا حينما يأذن قمرهم.
8.العبودية(السوداء)،وهي التي تسمُ بالعار أبناء(المجرمين) الأبرياء.فيصبح الشريف معيّراً بشرفه،والمستقل معيّراً بأستقلاله،والحر معيّراً بحريته.
9.العبودية الجرباء.وهي التي تتوج أبناء الملوك ملوكا.فيتم توارث القوة،ويغدو أبن(التاج) تاجاً،وأبن الزعيم زعيماً،وأبن العبد عبداً.
أعود لأتساءل عن حريتنا بعد عشرين سنة من الأحتلال،هل هي حرية أنعتاق،أم حرية عبودية؟! وكيف يمكن لمحتل أن يمنح الحرية؟! هل الحرية توهب أم تُجلَب؟ هل نحيا عبيداً لحياة ألفناها، أم أفكارٍ ثملناها،أم شخوصاً ألّهناها؟!