هناك من يتحدث عما يسميه بـ(أزمـة) قصيدة النثر، وسبب أزمتها تعرضها إلى إشكالية (المصطلح والتجنيس)، وقد صاحب هذه الإشكالية ردود أفعال متباينة من قبل النقاد بين قبول ورفض. ولكن هل أكتفت قصيدة النثر في هذه الإشكاليات أم أفرزت إشكاليات أخرى؟
لقد كشفت قصيدة النثر عن إشكاليات عدة ومن هذه الإشكاليات ظاهرة الغموض والابهام، التي أحدثت جدلاً واسعاً في الدراسات النقدية، وأفرزت ثالوث مسبباتها (الشاعر والنص والمتلقي).
إن الذي ساعد على كشف هذه الإشكالية كون قصيدة النثر متعدد الدلالات، والإيحاءات، والصور الذهنية، التي تشكل جوهر النص الشعري الحديث. هذه الإشكالية كشفت عن أزمة لدى المتلقي في مواجهة نماذج من النصوص المثقلة بالرموز والألفاظ المبهمة، أفرزتها مضامينها الفلسفية والصوفية والأسطورية والميتافيزيقية
، مما جعل من قصيدة النثر، نصاً غير متجانس بسبب تراكم الجمل والروئ، وأنكفاء الشاعر على ذاته.
لقد قامت فكرة الغموض في الشعر العربي الحديث على فلسفة الرمز، كأداة تعني الإيحاء، و (الصلة بين الذات والأشياء بحيث تتولد المشاعر عن طريق الإثارة النفسية لا عن طريق التسمية والتصريح). وهذه الظاهرة لم يختص بها الشعر العربي فحسب، بل شملت الشعر العالمي عموماً، وأنعكس أثرها في الشعر العربي الحديث نتيجة التأثر بالمذاهب الوافدة اليه من الغرب، -الرمزية والسوريالية- الذي وجد فيها الشاعر متكأً يستند إليها في كتابة النص الحديث.
إن رواد شعراء قصيدة النثر حين تأثروا بتجارب الأخرين من شعراء قصيدة النثر الغربية، تراهم وقعوا في مصيدة التقليد، بكل ما يحمله التقليد من معنى وتباين وأختلاف في الرؤى والأفكار. وهذه التبعية للغرب ناشئة عن حالة الإعجاب والأنبهار بالمنجز الشعري الغربي، كمرجعية في الشكل واللغة، وهذا الإعجاب والأنبهار يعد من أهم العوامل التي ساهمت في نشأة قصيدة النثر العربية. لكن معظم النقاد المعاصرين أجمعوا على (أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبداً)، “فاضل جهاد، أسئلة الشعر”. ولعل من أبرز شعراء الشعر العربي الحديث الذين أنبهروا بالمنجز الشعري الغربي، وشاع أستخدامهم أسلوب الغموض في نتاجهم الشعري هم: (أدونيس، محمود درويش، محمد عفيفي مطر وغيرهم)، وفيما يلي نماذج من أشعارهم:
ما قاله الشاعر “أدونيس” في قصيدته (الفراغ):
حُطامُ الفراغ على جبهتي
يمد المدى ويهيل الترابا
يُغلْغِلُ في خطواتي ظلامًا
ويمتد في ناظري سرابا
أما الشاعر “محمود درويش” فقال في قصيدته (أحب الخريف وظل المعاني):
أحبُّ الخريفَ وظلَّ المعاني، ويُعْجِبُني
في الخريف غموضٌ خفيفٌ شفيفُ المناديل،
كالشعر غِبَّ ولادته إذ “يُزِغلُهُ”
وَهَجُ الليل أو عتمةُ الضوء، يحبو
ولا يجد الاسم للشيء
والشاعر “محمد عفيفي مطر” في قصيدته (رفع القمع عن فراشة الدمع):
كان انتظارها الطالع في العينين
فراشتين
أو أنها ألقت على يديه صدرها المبتل بالندى وبالمطر
أو ضمدت أوسمة الموت بنهدها العريان
أو مسحت جراحه الخثراء والسيف الذي انكسر
بثوبها الظمآن
من جانب أخر ساهمت ظاهرة الغموض في ظهور فكرة لدى البعض من الشعراء الجدد الذين رأوا (أن لغة القصيدة ليست إلا الصورة فقط، وأن الصورة هي الأستعارة وكلما كانت الأستعارة تتسم بالغرابة كانت القصيدة حديثة)، “د. مسعد العطوي، الغموض في الشعر العربي، ص 59”. وقد ساروا على نهج المدرسة الرمزية، عندما أكثروا في نصوصهم الرموز والغموض، فكانت لا معنى لها، فهم لم يكتبوها للمتلقي، بل كُتبت لذات الشاعر نفسه ولا يفهمها أحد سواهم.
اليوم نرى في المشهد الشعري العربي الحديث الكثير من شعراء ثورة (وسائل الأتصال الأجتماعي)، الذين فهموا الحداثة في قصيدة النثر العربية على غير معناها الحقيقي، فأقـحموا أنفسهم عن عدم دراية في عوالم الرمزية والغموض، وعدم فهمهم لقصيدة النثر، فتراهم يضعون بين يدي المتلقي نصوصاً فاقدة لخصوصيتها الشعرية، متناسين أن الغموض في قصيدة النثر العربية من خياراتها (جماليتها وتقنيتها الفنية الحديثة)، تدعو القارئ الى التأمل والتفكير من خلال (ضوء جمالي خافت) يتركه الشاعر لكي يستهدي به القارئ الى المعنى أو الى فكرة النص.
إن المغالاة في الغموض الملغز والمعقد ليس إلا هو جهل بقصيدة النثر العربية من حيث الصورة المركبة والأستعارة والرمز والمجاز. فنصوصهم تتعمد الغموض الى حد التعمية، فتستعصي على القارئ فهمها. فهم (يلجئون إلى صف الكلمات، وحشو العبارات بمعاني جوفاء لا طائل من ورائها، فيلفونه بثوب الغموض، ويكفنونها في عباءة الطلاسم، ولا يدفعهم إلى ذلك إلا عجزهم عن إيضاح فكرة، أو خدمة هدف، فغايتهم أن يسموا أدباء، وأن يكتبوا وينتشروا ويشتهروا)، “مطلق بن محمد شايع عسيري، الغموض في الأدب الحديث أسبابه، وآثاره”. والغريب في هذا النوع من الشعراء، أنهم وجدوا من يطبل ويصفق لهم من قبل (أدعياء النقد) الذين يقدمون قراءات تحليلية لنصوصهم الغارقة بالغموض والإبهام والهذيان.
إن الذائقة الشعرية عند القارئ العربي، اعتادت على القصيدة التقليدية القائمة على الوزن والقافية، تعاني اليوم من ظاهرة الغموض والإبهام في ظل مفاهيم الحداثة الغربية الوافدة. حيث يجد القارئ نفسه أمام كم هائل من الشعراء، ولكن لا يجد الشعر إلا عند البعض منهم. فالقارئ مهما بلغ من فهم النص، فأنه لا يصل إليه. ويجد نفسه أمام نصوص غامضة الى حد الإبهام، لم يستطع فك مغاليقها، مما ساهم هذا الغموض في توسيع الهوة وتعميقها بين القارئ والشعر عموماً، وأصبح في حيرة من أمره، لا يدري هل هو أمام نص شعري أم طلسم من الطلاسم التي يستعصي فك رموزها؟!.
أرى أن شعراء قصيدة النثر وشعرهم الغامض الملغز الذي يعتمد الصور الذهنية، يعقد نصوصهم الشعرية، فتراهم ينظروا الى القارئ أنه أقل ثقافة منهم، ويظهروا بالمظهر المتعالي من خلال أستخدام الغموض، حتى يقال عنهم أنهم شعراء مبدعون يتمتعون بثقافة عالية، لأنهم أتو بشيء لا يفهمه غيرهم، ولكنهم خسروا في جميع الأحوال المتلقي، لأن نصوصهم بشكلها السريالي العبثي الغامض أدت إلى نفور القارىء منها، وبتروا الصلة القائمة بينهم والقارئ. وهذا يفسر لنا أن هناك من ينظر إلى الشعر العربي المعاصر على أنه (لقيط تربى في ملجأ أيتام)، “غالي شكري، شعرنا الحديث إلى أين، ص131”.
والشيء بالشيء يذكر، يُروى عن الجنرال “شارل ديغول” كان رئيساً للجمهورية الفرنسية، أن وزير الثقافة في عهده “أندريه مالر” قال: في إحدى جلسات مجلس الوزراء الفرنسي مخاطباً ديغول : (سيدي الجنرال، إن شاعرنا “سان جون برس” حائز جائزة نوبل سنة 1960 وهو شاعر ذو شـهرة عالمية، ويستحق وساماً رفيعاً من أوسمة الدولة، لاسيما أن شعره قد ترجم إلى العديد من لغات العالم). فابتسم الجنرال ديغول وقال لمالرو :(ما تقوله صحيح، ولكن متى يترجم شعر سان جون برس إلى اللغة الفرنسية؟ !).
أرى إن القراءة التأويلية بالنسبة لقارئ يمتلك وعي وذائقة شعرية، ومتأمل هادئ، وذا تفكير عميق. تعتبر أنسب القراءات في تحليل نصوص الحداثة الشعرية، لأنها تحتمل تأويلات مختلفة وتكشف ضبابية النص. فالنص الغامض حين يستعصي على القارئ وعنده الرغبة في دراسته، عليه أن يكون فاعلاً في محاولة أعادة تفكيكه وأنتاجه مرة أخرى وكشف غموضه، لأنه نص مثقل بالدلالات والإيحاءات والرموز والصور. وهذه خصائصه. وعلى الشاعر أن لا يحول الغموض إلى غاية يبالغ فيها إلى حد التعمية، بل ينبغي (أن نفرق بين الغموض من حيث أنه طبيعة للشعر وبين الغموض من حيث أنه لعبة لغوية أو هدف لذاته). ولكن لا ضير أن يَستفزّ الشاعر فهم القارئ للغوص في أعماق نصه الشعري، ولكن على القارئ (ذا خلفية معرفية وثقافية نوعية، عسر عليه فهم هذا النوع من الشعر واقتناص دلالته)، د.عبد الرحمن محمد القاعود، الإبهام في شعر الحداثة،ص 72. وفي نفس الوقت أن لا يحدث الشاعر أزمة لدى المتلقي في مواجهة نصوص، مثقلة بالرموز والألفاظ المبهمة، وطلسم لا يفكه إلا هو. فينبغي أن يكون في الشعر وخاصة قصيدة النثر وضوحاً كافياً، فلا جدوى من أستخدام الرمزية المفرطة والغموض المبهم حد التعمية يثقل به كاهل القارئ.
هكذا هو الشعر أضحى اليوم، فلم يعد يحمل ذات المفاهيم التي كان يحملها بالأمس. وعلى شعراء قصيدة النثر، أن لا يلوون عُنق النص، ويغرقونه بالغموض إلى حد الإبهام، فيفقد مفاتيحه وشفراته، فيصبح غائم المعنى، لا يساعد على وضوح المعنى، فعلى الشاعر أن يقترب في ذهنيته من المتلقي، فهناك من شعراء قصيدة النثر (أجادوا صياغة قصيدة النثر، -ولكن- جرجروا على خطاهم كالعادة المفلسين الذين لا يتقنون -الشعر-)، “كمال نشأت، شعر الحداثة في مصر، ص 224”. وهؤلاء (جنس ثالث) كما يقول عنهم الشاعر نزار قباني :
شعراء هذا اليوم جنس ثالث
فالقول فوضى والكلام ضَبابُ
يتكلمون مع الفراغ فما هم
عجم إذا نطقوا ولا أعراب
لقد أنكفأ بعض شعراء قصيدة النثر على أنفسهم، وكأنهم يكتبون لمتلقي أفتراضي لا وجود له سوى في مخيلتهم، وهذا الأنكفأ يخل في المعادلة الشعرية التي تعتمد على ثنائية (الشاعر والمتلقي)، فلا قيمة لأي نص شعري ما لم يكن له أثر في المتلقي.
إننا نرى أن قصيدة النثر مازالت تبحث عن كينونتها، فهي في أزمة قائمة، أزمة وعي عند الكثير من يكتبونها ويدعون أنهم يكتبون شعراً، في حين أنهم لا يعرفون مكونات هذه القصيدة وتاريخها، والتحولات التي تطرأ على الشعر عبر سياقات الزمن. بل هي كما وصفها أبرز من عرفها “أندريه بروتون” (مَا مِنْ شَيءٍ أصْعَبُ هَذِهِ الأيَّامِ، مِنْ أنْ يكونَ الإنْسَانُ، شَاعِرَ قَصِيدَةِ نَثْرٍ). فلا يمكن أن يجعل الغير من قصيدة النثر (مطية ذلول)، باعتبارها وليدت حركة الحداثة الشعرية الغربية.