عندما نتطرق إلى المقاربة التداولية فلابدّ أن نستعين أيضاً بالنسق الدال، وذلك للعلاقة التي تجمع بين المنظورية، المنظور التداولي والذي يقودنا إلى الظواهر الفنية والجمالية في الخلق النصّي، وكذلك النسق الدال الذي يقودنا إلى المعرفة الدلالية ومنها اللغة الدلالية في علم اللغة النصّي.
إنّ جميع الأعمال المقدّمة في المنظور النصّي تجمعها الأنساق، ومنها الأنساق الدالة التي تقودنا أيضاً إلى أنساق فلسفية ( طبعاً حسب مجاراة النصّ ونوعية تواجده )؛ وبما أنّنا الآن مع قصيدة للشاعر العراقي حيدر الغراس، فقد يقودنا المعنى والتأويل الدال إلى مقامية النصّ وسبل تنوّعه بين مقطع وآخر، وهذا مانؤكده أيضاً من خلال الخلق النصّي عندما تدرك الذات الحقيقية فعلها الأثيري في العمل إلى جانب العوامل الجامعة للمسمّيات النصّية.
عندما نطرق باب التداولية، نطرق فعلها المعرفي وعمقه الدلالي، حيث يشكّل الفعل الدلالي حركة الأفعال؛ إما على شكل عتبات فعلية، أو على شكل دلالة آنية تؤدي حركتها الحركية والانتقالية والتموضعية، وفي الوقت نفسه، هناك العلاقات التي تقيمها هذه الأفعال بفعل المعرفة العميقة بالأشياء والظواهر والأفكار وعلاقة الباث مع العالم الذي ينتمي إليه أو الذي اختاره من خلال الفعل الذاتي لكي يخرج من واقعه المباشر ويتجه نحو الواقع الشعري اللامباشر.
لقد اتجه الشاعر العراقي حيدر الغراس من خلال نصّه ( لكن… للتاريخ ) نحو معرفة الماضي والمعرفة الحاضرة، حيث أنّ الربط الذي واجهَنا به، كان ربطاً للعلاقات من خلال الخارطة، والموضوع هنا، الذي نستطيع أن نشتقه من المعنى العام، ليس موضوعاً للخارطة، ففي هذه الحالة سيبتعد عن تأويل النصّ وعلاقاته الخارجية ويبقى حبيس العلاقات الداخلية فقط، أي سيكون النصّ محبوساً دون تنفسات تذكر.
مات طعناً مدرّس التاريخ،
و هو يرسم لنا خارطة للوطن
على سبورة التاريخ السوداء
لكن..
ليس من عادتهم الرّسم…!
أساتذة الجغرافيه، و الفلكيون،
و معلمو الرسم، و المتصوفون والسرياليون،
ومن لعب الخيال بعقولهم، المنشغلون بفاكهة الكلام
بطبق من السبّورات السود، جاءوا
ليرسموا لنا وطناً أخضر،
.
من قصيدة: لكن… للتاريخ – حيدر الغراس
من خلال القصدية وتشكيلها الأساسي للنصّ التفاعلي، نلاحظ بأنّ هناك مسمّيات قولية، وهي القاعدة الأولى التي تقودنا إلى النصّ والنصّية طلما أنّنا في المعتقد النصّي، ويكون للقصدية مفاهيمها من خلال الجملة أولاً، ومن خلال المحور التشكيلي ومنه محور المتكلم ثانياً، ومحور القدرة على إيجاد مفهوم النصّ والانسجام بين معانيه وتأويلاته، ولا يكون للنصّ دالاً تأويلياً بدون معاني ومفاهيم تقودنا إلى التأويلات النصّية، وهذا ماتؤكد عليه فلسفة المعرفة.
مات طعناً مدرّس التاريخ، + وهو يرسم لنا خارطة للوطن + على سبورة التاريخ السوداء + لكن.. + ليس من عادتهم الرّسم…! + أساتذة الجغرافيه، و الفلكيون، + ومعلمو الرسم، والمتصوفون والسرياليون، + ومن لعب الخيال بعقولهم، المنشغلون بفاكهة الكلام + بطبق من السبّورات السود، جاءوا + ليرسموا لنا وطناً أخضر،
إنّ النصّ الشعري، يخلق القصدية من خلال الكتابة، ومن هنا، نلاحظ أنّ العلاقة الجدلية قائمة، قائمة بين التفكّر والكتابة، التفكّر عندما يطرق الشاعر باب التأويل ويكون تحت خيمة نظام غير معقد، مثلما رسمه الشاعر العراقي حيدر الغراس، وهو يقودنا من خلال النصّ ومن خلال العلاقة بين النصّ والمتلقي، والنصّ والمؤول، حيث أنّ انعتاق النصّ وتوجيه مهامه، لاتكون إلا من خلال المعرفة الكتابية والهدف من وراء ذلك اعتماد القصدية، وحتى إن كان النصّ يشير إلى الغموض أو الإيحاء.
مات طعناً مدرّس التاريخ = مدرس التاريخ يُقتل، إذن قتلوا خارطة الوطن، فالحالة التي وضعنا الشاعر في منطقتها، هي الحالة الاستدلالية، وبين التأويل والاستدلال، علاقة بنائية، بناء الجملة الشعرية من خلال تواصلها، ومن خلال تركيبها، وهما علاقتان تؤديان إلى سببية الحضور من خلال التأويل.
لكن
لا عكاّزة مدببة لديهِ
استعاض عنها بعكّازة تاريخ.
قفاز أبيض يرتديه
يخطّ لنا على السبورة شيء من تاريخ الوطن،
لم يرفض غبار الطّباشير،
.
من قصيدة: لكن… للتاريخ – حيدر الغراس
عندما اعتمد الشاعر النسق الدال، وهي خصوصية النصّ الذي رسمه الشاعر العراقي حيدر الغراس، كان للتشبيه الميزة الدالة في النصّ المنظور، ومن هنا، فقد اعتمد الشاعر على مراجعة ذاتية؛ لذلك يكون المسلك الذاتي أحد المسالك النسقية الدالة، حيث تتجمّع المعاني في منطقته، والعلاقة التي تظهر، هي علاقة الكلمة بمدلولها، وللتوضيح أكثر، يكون لتركيب الجملة الشعرية الأثر الفعّال من ناحيتي؛ الانزياح اللغوي أوّلا، واعتماد المعنى المرسوم ثانياً.
لكن + لا عكاّزة مدببة لديهِ + استعاض عنها بعكّازة تاريخ. + قفاز أبيض يرتديه + يخطّ لنا على السبورة شيء من تاريخ الوطن، + لم يرفض غبار الطّباشير،
إنّ الشاعر استطاع أن يجمع بعض الأشياء التي تناسب مدرّس التاريخ، فكوّن منها نسقاً دالاً، ولكنّه في الوقت نفسه، اعتمد على عنصر التشبيه الضمني، حيث أنّه جعل الجملة دالة على معناها، فالقفاز الأبيض، يرافق المدرّس برحلته، وليس صدفة، فهو الوجه المرسوم على السبورة ( الطبشورة ) ومن خلالها انطلق الشاعر، ولكنّه رمز أيضاً للعكازة المدبّبة.
العلاقات التي رسمها الشاعر، هي بواسطة التصوّرات، ومن هنا، جاءت بعض الجمل الشعرية على شكل تشبيه ضمني ألبسه الشاعر للدال الذي تحققت صورته من خلال النصّ.
لكن..
من أين لهِ بقفاز أبيض؟
جاء للدرسِ بجاربٍ مثقوب..!
لا يحلمُ كثيراً.. فهو
يدرك أن الحلم خيانة الجمر في مواقد العمر،
يدرك أنّ الحلم منى الشعر في رحم القصيدة،
يدرك أنّ الحلم أكذوبة الحكمة
في درس الإنشاء
.
من قصيدة: لكن… للتاريخ – حيدر الغراس
إنّ المنزلة المتواصلة في النصّ، هي أن يدفع الشاعر المعاني من خلال السياق، ولمّا كان السياق النصّي يمتثل أمام وظيفة التصورات، فد أنتجت هذه الوظيفة بعض الدلالات التي اعتمدها الشاعر، ومن هنا يكون للعلاقة الشعرية، علاقة نصّية، حيث أنّ اللغة التي يعتمدها النصّ هي خارج المألوف، وهي خصوصية النصّ عندما يكون باختلاف لغوي منهجي.
لكن.. + من أين لهِ بقفاز أبيض؟ + جاء للدرسِ بجاربٍ مثقوب..! + لا يحلمُ كثيراً.. فهو + يدرك أن الحلم خيانة الجمر في مواقد العمر، + يدرك أنّ الحلم منى الشعر في رحم القصيدة، + يدرك أنّ الحلم أكذوبة الحكمة + في درس الإنشاء
نلاحظ أنّ هناك تعدّدية المعاني، ولكن في الوقت نفسه إنّ الشاعر التزم بمركزية الحدث، وهو أنّ البؤرة التي تناولها من خلال العنونة أولاً، ونسب النصّ إلى أستاذ التاريخ ثانياً، لذلك عندما يشير إلى بعض المعاني، فهي ملتزمة ببؤرة الحدث الشعري، وقد كان للحدث الدلالي هي من خلال الدال، ويتغيّر مع كلّ معنى يعتمده، ومن هنا نقول إنّ النصّ اعتمد على اختلاف المعاني والتأويلات، وليس غريباً عندما يكون المدلول غير واضح ( إلا أنّ الذي يجب فهمه من المدلول ” Signifie ” ليس واضحاً، إذ يعدّ – في بعض الأوساط – مرادفاً لشيء ” Chose “. وفي موضع آخر يعني التصوّر أو الفكرة؛ يعني جوهر علم النفس أو المنطق. – علم الدلالة – ص 19 – كلود جيرمان، ريمون لوبلون – ترجمة: د. نور الهدى لوشن ).
لكن..
من أين له سرير لينام ويحلم…؟
في غرفة التحقيق لم يقل
شيئاً، أغمضوا عينيهِ.. طلبوا
أن يرسم على السبّورة خريطة للوطن
لكن..
قبل أن يصل السبّورة، بال على ثيابهِ
يتمتمُ بسرّهِ
( موطني… موطني )….
.
من قصيدة: لكن… للتاريخ – حيدر الغراس
إذا كانت الفكرة أو التصوّرات تعني لنا المدلول في بعض مواقع علم الدلالة، فمن خلال المشهد التأسيسي للنصّ، نلاحظ أن التصوّرات تتعمّق، بينما تذوب الفكرة من خلال الكتابة التلقائية التي يعتمدها الشاعر، والعلاقة المبنية تصبح، علاقة النصّ بالتصوّرات وكذلك بالمنظور الخيالي؛ وهي العلاقة التي تتوضّح عادة من خلال المنظور النصّي.
لكن.. + من أين له سرير لينام ويحلم…؟ + في غرفة التحقيق لم يقل + شيئاً، أغمضوا عينيهِ.. طلبوا + أن يرسم على السبّورة خريطة للوطن + لكن.. + قبل أن يصل السبّورة، بال على ثيابهِ + يتمتمُ بسرّهِ + ( موطني… موطني )….
إنّ انسجام المعاني يوحي لنا بعلاقة التاريخ في المنظور الآني، لذلك فإنّ الجدل الفلسفي يقع على حقيقة المبنى النصّي، وهو الواقع الذي نقله الشاعر حيدر الغراس من المنظور الذهني إلى المنظور الكتابي، فقد نقل حالة الاعتقالات التي تحدث بأساتذتنا في المدارس وهم يدفعون ضريبة وطنيتهم.
إذا أراد الشاعر أن يمتلك الأسئلة، فإنّه سوف يدخلنا بقائمة لاخروج منها، ويأتي هذا التقييم من خلال إثارة بعض الأسئلة في النصّ المكتوب، وهي الحالة الإجرائية التي أرادها أن تكون ملازمة للمعاني من جهة، وتفسير علاقات الجمل وتركيبها من جهة أخرى.
الشاعر العراقي حيدر الغراس، شاعر يمتلك الصبر في المنظور التركيبي للجمل، لذلك تخرج نصوصه بكيانات نصّية، فهو ينتقل من حالة إلى أخرى من خلال تقريب الأشياء من جهة، واعتماده المساحات التصوّرية من جهة أخرى.
……
لكن… للتاريخ
…………………………
مات طعناً مدرّس التاريخ،
و هو يرسم لنا خارطة للوطن
على سبورة التاريخ السوداء
لكن..
ليس من عادتهم الرّسم…!
أساتذة الجغرافيه، و الفلكيون،
و معلموا الرسم، و المتصوفون والسرياليون،
ومن لعب الخيال بعقولهم، المنشغلون بفاكهة الكلام
بطبق من السبورات السود، جاءوا
ليرسموا لنا وطناً أخضر،
لكن
دقّ الجرس و تفرّق الطلاب..!
مدرس التاريخ، لم يكن بالحبّ من شيء،
كان يتذوّقه، يشمّ عطر ليلى و جولييت،
يشرب من ماء النهر لا يرتوي،
يمد ساقيه فتدوسها خيول الأباطيل،
لكن
لا عكاّزة مدببة لديهِ
استعاض عنها بعكّازة تاريخ.
قفاز أبيض يرتديه
يخطّ لنا على السبورة شيء من تاريخ الوطن،
لم يرفض غبار الطّباشير،
لكن..
من أين لهِ بقفاز أبيض؟
جاء للدرسِ بجاربٍ مثقوب..!
لا يحلمُ كثيراً.. فهو
يدرك أن الحلم خيانة الجمر في مواقد العمر،
يدرك أنّ الحلم منى الشعر في رحم القصيدة،
يدرك أنّ الحلم أكذوبة الحكمة
في درس الإنشاء
لكن..
من أين له سرير لينام ويحلم…؟
في غرفة التحقيق لم يقل
شيئاً، أغمظوا عينيهِ طلبوا
ان يرسم على السبورة خريطة للوطن
لكن..
قبل ان يصل السبورة، بال على ثيابهِ
يتمتمُ بسرّهِ
( موطني… موطني )….

..
حيدر غراس

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *