واهم من يظنّ أن المحتوى الهابط المنتشر في الوقت الحاضر حديث العهد، فمن يبحث في كتب التأريخ يجد الكثيرَ من نماذج هذا المحتوى كان موجودًا منذ القدم, وفي مختلف المجالات ، ففي مجال الشعر مثلًا بلا شك أن الشعر في كل أنواعه كان يعدُّ مصدرًا من مصادر الحكمة، وعاملًا من عوامل تهذيب النفس وهو أفضل وسيلة لحفظ اللغة، وتفصيح اللسان، وهو وسيلة من وسائل تقوية العادات الإيجابية وتنميتها لدى العديد من الأفراد، فهو يبيّن ويبرز العديد من مكارم الأخلاق, وهذا هو المحتوى الحقيقي للشعر منذ العصر الجاهلي مرورًا بالعصر الإسلامي والأمويّ، لكن ظهر في العصر العباسيّ غرض شعري (محتوى) هابط من الشعر وهو ما يسمى بـ(التّغزل بالغلمان) أو (الغزل بالمذكر) الذي ابتكره واشتهر به الشاعر أبو نؤاس, فهو يرى في حبّ الغلام لذّة، وقد فاضت أشعاره بالغلمان بمعاني الشّكوى والحزن واللّوعة من المحبوب , فنظم الكثير من القصائد التي تغزّل فيها بغلام له أسماه (رحمة) , فكان يفضله على النّساء , حتى تراه في بعض أشعاره يبدي اشمئزازه من المرأة ويغالي في ذمّها وتعداد عيوبها , والإعراض عنها وإن كانت في حسناء جميلة, فيقول ساخرًا من إحداهن :

وقالتْ تزوّجني على مهرِ درهمٍ لقلتُ اذهبي عنِّي فمهرُكِ غالِ

وقد كان شديد النّفور من الزّواج , ويـــــــــــــــروى أن بعض أهله عذلوه على سيرته وقالوا له :”يا هذا , أنّه قد نفذ عمرك وساء عملك , فلو تزوجت امرأة من أهل بيتك رجونا أن تقصر عن بعض ما أنت فيه , فأبى عليهم , فما زالوا به حتى زوجوه جارية جميلة من أهل بيته , فلما دخل بها أعرض عنها , وخرج إلى غلمان كانوا يأتونه , فجمعهم فألبسهم الأزر المعصفرة , وخلا معهم يومه , فلما أمسى طلّقها” .

وعلى الرغم من أن المحتوى كان يمثل غرابة لدى الكثير من افراد المجتمع المسلم, تتمثّل بابتعاده عن الفطرة السوية, والأعراف العربية الأصيلة , إلّا أنَّ هذا المحتوى الهابط من الشعر كان بماركة الخليفة آنذاك , فبعد عودة أبو نواس إلى بغداد واتصاله بالأمين, والذي كان فيه ميل إلى اللّهو, فحوَّل الخليفة قصر خلافته إلى مقصف كبير للرّقص والغناء والمجون, واتخذ من أبي نواس نديمًا يمتدحه وينظم له ما يريد من قصائد الغزل بالغلمان والخمريات, فكأنّما اخترع هذا الغرض الشعري مخصوصًا ليلائم مزاج الخليفة, وعلى الرغم من هذا الانحدار الكبير الذي أصاب الشعر إلا أنّ لم ينجرف الكثير من الشعراء لتجربة هذا المحتوى الهابط من الشعر, فقد كان الكثير من الشعراء يكتبون في الغزل العذري غير الخادش للحياء .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *