لم تكن قرية الشواهين ،قد طار في سمائها شاهينا واحدا ، ولهذا نحن المعلمون سألنا اهل القرية مرة واحدة عن سبب تسميتها ، فلم يمتلكوا جوابا ، كل الذي قالوه : حين ولدنا وجدنا اسمها هكذا .
تقع أم الشواهين وسط الماء وسكانها يتجاوز الخمسين فردا وبثلاثين صريفة ، وفي اطراف تلك الجزيرة الطينة تقع مدرستنا بأربع صفوف من القصب وجناح ادارة ، ويتلاصق معه تواليت صغير من الطين ومن دون سقف .
من بين تلاميذ الصف الرابع هو عفريت لفته شخط .
وهو ايضا لا يعرف لماذا سماه والده عفريت ، ولا يدري ان أسم جده في واحدة من معانيه انه سطر ، والسطر في العامية هو شخط ، وعند المعدان الشخط يعني الجنون . والمجنون يسمونه مشخوط . وعندنا في درس الاملاء الكلمة الخاطئة نرسم تحتها شخطا اي خط وغالبا ما يكون باللون الاحمر .
اما العفريت فأنا من شرحته الى التلاميذ كشخصية اسطورية تزرع الرعب في القلوب ،مقربا اليهم معناه على شكل حكاية الذي يقول : العفريت (والجمع عفاريت) هو نوع فائق القوة من الجن، ديمون موجود في الإسلام. وغالبًا هو مرتبط بالعالم السفلي كما إنَّه مُتَمَاهَى مع أرواح الموتى، وقد شاع في الثقافة الأوروبية بأنَّ له صلة بالأماكن التي تحفل بالشَّر. في القرآن والحديث وحادثة الإسراء والمعراج، فإن المصطلح يتبعه دائمًا تعبير (مِنَ الجن).
وبعضهم بسبب شروحاتي ابتعد عن عفريت واللعب معه ، وسكنت الانطوائية عالمه وتندمت لأنني شرحت لهم معنى كلمة عفريت .
ابوه لفته ، كان يمشي ونظراته الى الامام فقط .ففي طفولته جرب أن يصعد جاموسة فرمته عنها الى الارض وانكسرت رقبته ، ولم يعد بمقدوره تحركيها يمينا او شمالا . فكنا نسميه لفته الذي لا يلتفت ، وهو ايضا عاش متأثرا بمشاعر انه لا يستطيع ان يلتفت عبر الجهات الاربع حيث يستطيع أن ينظر الى الامام فقط ، لهذا زوجته ام عفريت هي من تقود قطيع الجواميس الى قيلولتها والرعي فأن ابتعدت واحدة عن القطيع لا يستطيع لفته ان ينتبه اليها او يراها فيعود القطيع في كل مرة ناقصا جاموسة او جاموستين ، وكان ( معيبد ) جارهم يترصد الجاموستين المبتعدتين عن القطيع يجلبهما الى بيته يحلبهما ثم يعيدها الى بيت لفتة وضرعيهما فارغين ويظهر لهما انه صاحب الفضل بإعادتهما قبل ان يتيها بين القصب ويقعان بيد اللصوص، فيشكرانه وهم يعلمان ان جارهما معيبد رق حليب الجاموستين من ضرعيهما.
يوم كبر عفريت وترك المدرسة طلب من ابيه ان يكون جليس البيت وهو يتكفل بكل شيء . بعدما توفيت زوجة لفته . وكنت دائما انتبه الى لفته يجلس في مقدمة بيته ونظرهُ صوب الهور وبعيون دامعة ، فأقترب منه واساله :لماذا تبكي يا لفته ؟ فيرد انه يستطيع ان ينظر الى الهور الذي امامه فقط ولا يستطيع ان يدير رقبته صوب قبر زوجته في النجف فينظر اليه.
احزن من اجل لفته ، وازداد حزني اكثر يوم ذهب عفريت جنديا الى الحرب ،وبذات الجلسة كان لفته ينتظر ولده في اجازته وحين يظهر المشحوف الذي يحمل ولده امامه يصيح بأعلى صوته :اهلا بولدي .فالعفاريت لا تموت في الحروب . واستغرب وانا اسمعه فهذه العبارة تحتاج الى مثقف ليقولها.
ذات يوم كنا نستمع في مساءات الراديو الى اغنية نجاة ( الطير المسافر ) ،حيث انتبهت الى لفته وهو يحسب دقائق مجيء ولده مجازا من جبهات الحرب ، عندما انطلق العويل والنحيب والصراخ من جهة لا يستطيع لفتة النظر اليها بسبب لرقبته ، وحين اطفأنا صوت نجاة وهرعنا الى جهة العويل عرفنا ان قاربا اتى بنعش شهيد ، ودقائق لنعرف ان النعش يحمل جسد لفته.
نظرت صوب الاب ،الذي بدى غير مكترث للعويل والصراخ .وحين اقتربت منه وقلت له : يا ابا عفريت ؟ وقبل ان اكمل قال : اعرف هو ليس ولدي لأن ولدي اذا اراد ان يجيء حتى لو بنعش فانه يأتي من الجهة التي امامي . قلت وبصوت دامع : ولكنه اتى هذه المرة من الجهة الاخرى يا لفته.