الحقيقة أعلاه لم تأتِ من فراغ، بل هي محاكاة لهتافات تداولت خلال الربيع العربي، الذي عصف بالمنطقة وغير بعض انظمتها، وساهم بتدمير البعض الأخر!
لذا لا يمكن قراءته بنفس الإيقاع الذي جرت عليه العادة، لإختلاف المقاصد والنتيجة التي يسعى لتحقيقها عمار الحكيم، من خلال زيارته لعدد من مدن الوسط والجنوب، وآخرها زيارته الحالية لمدينة البصرة، والتي على ما يبدو أنه يوليها اهتماما لافتا بلحاظ ندرة تلك الزيارات أو انعدامها للمدن الأخرى، التي يشكل سكانها الغالبية العظمى من أبناء المكونات الأخرى.
يتعامل البعض من المراقبين بشكل أو بآخر مع حركة تشرين، واحداثها التي جرت في العراق، على انها إمتدادا وتأثراً بحركة شعوب المنطقة التي عبرت عن رفضها لأنظمة الحكم هناك، وهذا مجانبة للحقيقة نظرا لإختلاف الآليات التي مكنت تلك الأنظمة من حكم تلك البلدان، عن طبيعة النظام السياسي في العراق، الذي حل بديلا عن سياسة القمع والتهميش، التي مارستها سلطة البعث إبان حكمها للعراق.
حيث ان نظام الحكم في العراق، يعتمد الآلية الدستورية، التي تعتمد رأي المواطن في إختيار من يراه جديرا بصدارة المشهد السياسي، وهذا ما لا وجود له في البلدان، التي كانت مسرحا لإحداث الربيع العربي.
وهذا لا يعني مثالية التجربة العراقية وخلوها من العيوب، أو تلبيتها لجميع طموحات الشعب، بل على أقل تقدير انها انبثقت من عمق إيمان الفرد، بضرورة التداول السلمي للسلطة، والسعي لضمان منع هيمنة الفكر والعقيدة الواحدة، على مقدرات الشعب والتحكم بمصيره.
توجه الحكيم صوب المحافظات الشيعية، َولقاءه أبنائها وإجتماعه بنخبها، هو نتاج قناعته بأن هذا النظام لا زال فتيا، وهناك العديد من المطبات، التي تحول دون معالجته للسلبيات التي يعاني منها المواطن..
لذا فهو يتبنى رؤية الترميم، ولا يتجه نحو الهدم الذي طالبت به تشرين، بالرغم من مواقفه المتفهمة من الرؤية الاحتجاجية، التي تدعو لاسقاط النظام وتأسيس بديل عنه، بمسميات تخلو من الرموز والفعاليات التي تصدت للمشهد بعد التغيير.
يمكن القول ان رؤية الحكيم لواقع مابعد تشرين، يستدعي التشخيص المبكر للمشاكل، ووضع الحلول والمعالجات الاستباقية، خصوصا بعد أن قالت مدن الجنوب كلمتها، في تحرير الاراضي التي استباحتها عصابات داعش، قبيل صدور فتوى المرجع الأعلى السيد السيستاني.
بالرغم من كون الحكيم أحد اهم الاقطاب المتصدية للمشهد، وناله نصيب مهم من الاستهداف الذي تبنته الاحتجاجات، لكنه تميز بموقف يدعم الأطرا العامة لرؤية المتظاهرين المطالبين بالاصلاح، وليس دعاة التغيير الجذري للنظام، أو الضجيج العشوائي الذي استباح الأرواح والممتلكات العامة والخاصة..
تبعا لذلك يرى محللون ان جولاته هذه، تعد بمثابة تحذير لتلك المناطق، من الانسياق خلف الدعوات الموجهة، لنسف الواقع السياسي في مدن وسط وجنوب العراق، وبنفس الوقت تغض الطرف عن السلبيات التي تشهدها بقية المناطق والمكونات.. كذلك هي دعوى لعدم التأثر بالدعايات، التي تستهدف تجربة مابعد البعث واعطاء الأفضلية “للزمن الجميل” كما يحلو للبعض تسميته، رغم خلوه من وجود اية إيجابية تذكر طيلة فترة حكمه.
الحكيم يسعى لاعادة وعيٍ مسلوبٍ، حسب وصف بعضٍ من مقربيه، وحسب مايراه هو، بعد أن ساهم الفشل والصراع السياسي والتواصل الإجتماعي الموجه، في تغييب هذا الوعي، ومصداق ذلك من اشد الواضحات، بدليل الاختلاف في التعاطي مع الواقع الحالي، من قبل الإجيال التي جات بعد إسقاط صدام، وعدم استشعارها الخطر المحيط بالمساحات الفارغة، التي لا تجد الاهتمام اللازم من النخب المتصدية!
هل سنشهد تناغما في الإدراك، بين ابناء تلك المدن وهذا السياسي، الذي جعل من نفسه ضيفا شبه الدائم عليهم؟.. أو لعل تلك الزيارة جائت تلبية لدعوة من وجهاء القوم من مشايخ الجنوب فحسب؟