مايُقدّمُهُ الدكتور حميد عبد الله مِنْ جهدٍ إعلامي في الكشْفِ عن أحشاءِ الدولةِ العراقيةِ وتاريخِها الصاخب القريبِ ، يُعدُّ اليوم من ألمع مايُقدَّمُ في وسائلِ الإعلامِ العراقيةِ ، في زَمنٍ تحوّلتْ فيه أنباءُ السياسةِ عن الماضي والحاضر الى أخبارٍ منوّعةٍ للفرجة والاستمتاع بتقلّبِ الآراء، وصناعة المعلومات بالتأليف والتسويفِ حَسَب الحاجةِ وعندَ الطلَبْ.
حميد عبد الله أستاذُ التاريخ والصحفيُ الرصين والمحاوِرُ الجريء، اختَطَفَ أهميةَ مايحتاجُه شبابُنا اليوم وأيضاً شيوخُنا الذين لايعرفونَ أسرارَ بلادِهم الا عبرَ نوافذَ صغيرةٍ متناثرةٍ لاتُدلُهم على الحقيقة. فاختارَ أنْ يقتحِمَ تاريخَ الدولةِ المعاصر قَبلَ أن يُفلِت بلا شهود ويدخلَ فرنَ الزمنِ الذي يُضيفُ ويحذِفُ ويهوّلُ ويهوّنُ على هواه ، الزمنِ البعيدِ الذي يُنتِجُ لنا أحداثاً على شكلِ عقائدْ،وأوسمةً تصلح للجناة والضحايا معاً ! وأساطيرَ لأبطال تاريخيين علينا تصديقها. يفوّت الدكتور حميد الفرصةَ على تعليبِ الزمن هذا، ويَدخلُ محظورَ السياسةِ العراقيةِ بأنفاقِها وعداواتِها ومواقفِها المفزِعةِ التي تُرينا رجالاً ونساءً عسكريين ومدنيين، جماعاتٍ وفرادى يرتجفونَ خائِفينَ ضائعين في حضرةِ جنونِ العَظَمة، وتَقديرِ مصائرِ البلادِ والعباد.
في هذا التاريخ القريب الذي لم تُقفَلْ قبورُه بعد، يلتقط ُ الدكتور حميد من ذاكرة وألسنة شهودٍ أحياء ما يكشِفُ ظلمَ الدولةِ الشموليةِ المتمثلةِ برئيسِها الأوحد المطلق للأقربينَ قَبلَ الأبعدين. كيف تقلّبّتْ أقدارُ بلادِنا؟ وأُهينَ تاريخُها ورموزُها؟ وهُدِرتْ ثرواتُها؟ وتحوّلتْ من مشروعٍ حضاريٍ في التاريخ الإنساني الى كيانٍ متوترٍ،ومخٍّ متصلبٍ يُنتجُ الضغائنَ، تلعَبُ بأعصابِه مراكزُ القرارِ الدوليةِ دونَ أنْ يفقه من بواطن ذلك شيئاً، مستشارُهُ الوَهْم، يحكمُ بالظنْ ويعاقِبُ بالغضَبْ، ويرمي بالأخطاءِ الكارثيةِ على رفاقِهِ وعُمّالِه ورجالاتِ الدولةِ الذين سرّبَ لسلوكِهِم من قسوتِه وعناده، في مجتمعٍ مستَنْفَرٍ لاحولَ له ولاقوة أمامَ الرعبِ والتهديدِ ببقرِ البطونِ والقتلِ بالجملة. حتى تختلطَ لدى المراقبِ دوافع (المؤامرةِ) المدروسة لقتلِ هذه البلاد وإخراجها من معادلة الحياة والقوة، بدافع (الجهل) والغباء وتسيّدِ من لا خبرةَ له على من لا رأيَ له.
أكاديميةُ وخِبرةُ وحضورُ شخصيةِ الدكتور حميد الأمينةِ المتّزنة، هي التي ضبطَت فوضى ودهاليز هذه الأحداث وقدّمتها في سياقِ مُبرّرٍ دونَ انحيازْ، لينقذَ المعلومةَ بحِنكةٍ وحذر من التوظيفِ والتسطيحِ، ومن جَعْلِها مجرد حكايات باردةٍ وإفتراءاتٍ تلوكُها الألسنُ دونَ أدلّةٍ أو تفحّصٍ سليمْ .
وإذا كانتْ قراءةُ التاريخ تَجري في نَسقَين كما نَعرِف، نسقٍ لتاريخ الإنجاز الإنساني في العلومِ والابتكارْ وأسراِر الكون ، وهو خَطٌّ تراكميٌ يستَندُ جديدُه الى قديمِه، ليختبرَهُ ويُكمِلَه ويُضيفَ إليه ويخدم أمم الدنيا دون تمييز، والآخر هو تاريخُ الأرضِ وماشهِدتْه من صراعاتٍ وحروبٍ لتجنبِ أخطائِها والإفادَةِ من عِبَرِها. فإنّ خطورةَ تاريخِنا المعاصر كونُه تاريخاً للقسوة فقط . لا مِثالَ يُحتَذى ولاحكمةً تُقتَدى، ولا خططاً تُدَرّس ولا خيراً يتكاثَرْ. وذلكَ هو مصدَرُ الصعوبةِ والمسْؤوليةِ في مايُقدِّمُه الدكتور حميد عبر (تلك الأيّام) من مادّةٍ شاسعة واسعة معقدّة، مما يضعُه موضعَ حامِلِ الرسالةِ التاريخيةِ في عملِهْ، نعرِفُ من خلالِها ذواتَنا كيفَ أهينَتْ، وبلادَنا كيفَ افتُرِسَتْ ومصيرَها الذي أصبحَ علامةَ استفهام تتضخّمُ كل يوم .
وعلى الرغمِ من أنْ العِبْرةَ هي في الإفادة من زوال الحياةِ والمُلْكِ والنِعمة وماتؤول اليه مصائر الطغاة، لكنّ سوءَ الطالع العراقي أنّ دماء وأعصابَ وشراسةَ وشراهةَ من حكموا العراق ويحكمونه متشابهةٌ رغم تناقضِ أيديولوجياتهم
.
فإذا كانَ تاريخُنا الأخلاقي البعيد قد قدّمَ نماذجَ رفيعةً في الإدارةِ والزُهدِ والتضحية على وِفقِ ماوصلَنا من رواياتٍ ومؤلفات، فإنّ تاريخَنا المعاصرَ للأسف قدّمَ نَماذجَ تَبطشُ وتَنهبُ وتتنمّر وتتقلّبُ وتفرّط بالحَياة، فيما قدّمتْ لنا شعوبٌ معاصرِةٌ تعيش معنا اليوم على الكوكب نفسِه نماذجَ رفيعةً في الثورةِ على الظلْمِ وبَياضِ اليدِ والتَسامُحِ ورأبِ الصدْعِ بينَ الأعْراقِ والشعوبِ والثقافاتْ
.
أيامُ حميد عبد الله تلكْ ستَبقى إشارةً حمراءَ يلوّحُ بها للماضي القريبِ الذي يُدينُ سوءَ إدارتِه ويشخِصُّ أخطاءَه موالوه قَبلَ مناوئيه. وللحاضرِ الذي لمْ يَعتبِر من نتائج التهوّر والتفريط بالوطن، وقَبلَ ذلك كلّه يلوّحُ به للمستقبلِ وأجيالِه الجَديدة ْ،بأنّ هذا هو تاريخُ آبائِكم الذي مازالَ أخضرَ لم يتَعتّقْ بَعدْ، فخذوهُ درساً قاسياً، تعلّموا مِنهُ ولا تَتعلّموه.