قلت في المقال السابق أن الطريق الثالث الذي يبدو أن كل من الأدارة الأميركية والحكومة الأيرانية قررا أنتهاجه والمضي فيه قدماً يعتمد على التحليق المنخفض لتجنب رادارات الصحافة والأعلام ومزايدات السياسة في كل من واشنطن وطهران. هذا الطريق يعتمد تجميد الأنشطة الأيرانية في المجالين النووي(في الداخل) والميليشياوي (في الخارج)،مقابل تخفيف العقوبات الأميركية بما يضمن تدفق بعض الدولارات (كالتي أطلقها العراق مؤخراً) والتي يحتاجها الأقتصاد الأيراني لتبقى أجهزة أنعاش هذا الأقتصاد التي ناهزت على التوقف، قادرة على الأستمرار بالعمل. هذه الصفقة التي ترعاها عُمان وبعض الدول الأوربية لا تبدو لي جديدة فقد سبق التوصل لما يشابهها في عهد الأدارة الديموقراطية السابقة(أوباما) والتي عاد معظم عرابيها الأميركان للسلطة مع بايدن.وللأجابة عن السؤال الذي طرحته في نهاية المقال السابق أقول أن الأنعكاسات الجيوأستراتيجية لهذه الصفقة على المنطقة عموماً والعراق خاصة ستكون كبيرة وقد بدأنا فعلاً ملاحظتها وتلمسها خلال الأشهر الماضية. ولم يقتصر الموضوع على أطلاق الأموال الأيرانية المجمدة في العراق بل ربما سيتم أطلاق أموال أخرى. كما سنشهد عمليات أطلاق لسجناء غربيين في أيران. هذا فضلاً عن مضي عجلة (الهدنة) بين السعودية وأيران ليس في اليمن وحدها بل في لبنان وسوريا أيضاً. وقد تتطور هذه الهدنة الى تفاهمات أعمق بل وأتفاقات سياسية وأقتصادية أعتماداً على مدى ألتزام الطرفين بتعهداتهما وأستمرار حاجتهما للتفاهم الأقليمي. ومقابل تناسي أو تجميد ملفي البحرين واليمن من قبل أيران وحلفائها سيكون على السعودية (وحلفائها) التخفيف من طلباتهم في لبنان وسوريا. أما على الصعيد الأمريكي فستتوقف المطالبة بمغادرة القوات الأميركية سواء في العراق أو سوريا. مع ذلك سيبقى ملفا العراق وأسرائيل هما أصعب ملفين أمام هذه الصفقة ويهددان بنسفها في أي لحظة.
تجميد الاوضاع
ففي العراق ورغم أتفاق الطرفين على تجميد الأوضاع على ماهي عليه فسيكون من الصعب ضبط كل الميليشيات الولائية فيه بخاصة تلك التي لم تنخرط في الحكومة الحالية مباشرة. لذلك لا زلنا نسمع بين الحين والآخر أصوات وبيانات تندد بتطور العلاقات الأميركية مع حكومة السوداني. هذه الميليشيات تعيش على فكرة مقاومة أميركا. لذا فأن هذه الهدنة الأميركية-الأيرانية ستقطع عنها مصادر عيشها مما يستلزم من أيران وحلفائها في العراق أسترضائهم أو التعامل معهم بشدة. من جانب آخر فأن أهمية العراق لأمريكا ،ولأسباب مختلفة سبق وتطرقت لها في أكثر من مقال،أكبر بكثير من أهمية كثير من دول المنطقة الأخرى. لذا ستبقى أميركا فاعلة بقوة في العراق بخاصة مع وجود كثير من القلق من جانب مؤثرين في الملف العراقي في واشنطن من فسح المجال أمام قوى الأطار لتعيد أنتاج الدولة العميقة التي سبق وتم تفكيك كثير من مقوماتها بعد حكومة المالكي. أما بالنسبة لأيران فالعراق هو ليس فقط ساحة نفوذ أستراتيجي وأنما الرئة الأقتصادية التي تتنفس من خلالها. لذا حتى مع وجود هذا الأتفاق مع أميركا والسعودية فلن تتوقف عن أحكام قبضتها على السياسة العراقية كما فعلت طيلة العقدين الماضيين. يقابل ذلك وجود رأي عام عراقي رافض بشدة للتدخلين الأيراني والأميركي بشؤونه لذا فأن أي حركة سيقوم بها السوداني وحلفاؤه.
في تحالف أدارة الدولة -وليس قوى الأطار فقط – سيوزن من قبل الرأي العام في ميزان قربه أو أبتعاده عن المصالح الأميركية والأيرانية وتحقيقه للمصالح العراقية مما يعقد مهمة السوداني وحكومته كثيراً. ولعل موقف الرأي العام العراقي من طريق الحرير أو التنمية أو حتى المشاريع المختلفة مع دول الخليج مثال للعقبات التي ستواجه الأتفاق الأميركي-الأيراني في العراق.
أما على الجانب “الأسرائيلي” فيبدو المشهد أكثر تعقيداً أمام هذا الأتفاق.فقادة العدو صرحوا أكثر من مرة أنهم غير معنيين بمثل هذه الأتفاقات مع أيران التي يرون في برنامجها النووي تهديد وجودي لهم. لذا فهم لن يرضوا بأقل من ضمانة حقيقية لتدمير كل أمكانية نووية أيرانية وسيستمرون بمهاجمة أيران في الداخل والخارج لتدمير بنيتها النووية الأساسية فضلاً عن مهاجمتهم للميليشيات الولائية القريبة من حدودهم في سوريا. فأسرائيل لا تريد أن تتم محاصرتها بميليشيات معادية تهدد امنها. من هنا يجب عدم توقع قدرة أميركا،بل وحتى نيتها،لوقف النشاطات الأسرائيلية ضد أيران.هنا سيكون السؤال:الى متى ستبقى أيران ساكتة عن هذه الهجمات التي تُشن على برنامجها النووي وميليشياتها الولائية في داخل وخارج أيران؟ وماذا سيحصل لو قررت أسرائيل تصعيد هجومها؟ ماهو الموقف المتوقع آنذاك للأدارة الأميركية،وهل سيرضي أيران بشكل يديم أتفاقها مع واشنطن؟
شخصياً،أتوقع أن الأتفاق الأميركي الأيراني الذي أسميته بالطريق الثالث سيمضي،ما دام الديمقراطيون في واشنطن بالسلطة، مع كثير من الصعوبات التي ستجابهه والتي يمكن أن تهدد بأنهياره.وأن السيناريو الأقرب للتصور في العراق خلال السنتين القادمتين هو الهدوء الحذر بين أميركا وحلفائها من جهة وأيران وحلفائها من جهة أخرى. أن فترة مقاربة لفترة المالكي الثانية هي الأقرب للتصور في ظل هذا السيناريو على ما يبدو. مع ذلك فأن متغيرات كثيرة يمكن أن تنسف كل هذا الأتفاق. ففي العراق قد تشكل عودة الصدريين للسياسة تهديد مباشر لهذا الأتفاق. أما على الصعيد الخارجي فأن أنهيار الهدنة في البمن أو ضربة أسرائيلية كبيرة لأيران يمكن أيضاً أن ينسفا هذا الأتفاق.