المشهد الأول:
– العام 1975 وأنا (د. هادي حسن عليوي).. كنتُ في قاعة الامتحان النهائي للماجستير للسنة النظرية.. والأستاذ كان يوزع أوراق أسئلة الامتحان.
– ودخل أخي الصغير )عيسى( قاعة الامتحان بلا استئذان ومرتبك.. ليخبرني بوفاة والدي تواً.
– ذهلتُ.. ومن هول الصدمة.. بقيتُ واقفاً في مكاني.. لم يشير لي أي من الأساتذة بشيْ.. فأنا المتفوق الأول في دراستي.
– ما العمل؟.. لابد من أن اترك الاختبار.. وخرجتُ.. وعند باب قاعة الاختبار.. سألتُ أخي: أين والدي الآن؟.
– قال في المستشفى لاستلامه والعودة به الى البيت.. وإخواننا كلهم هناك.
– وخلال ثوان تذكرتُ مواقف الكثير من الشخصيات والرموز العراقية والعالمية والمشاهير الذين مروا بمثل هذا الموقف.
– في تلكً اللحظة قررتُ دخول قاعة الاختبار.. فأنا لن استطيع بذهابي الى المستشفى.. أعادة أبي للحياة.. الذي أوصاني.. وشجعني.. وتابعني بإكمال دراستي العليا.
– كما إنني لن أقدم أكثر مما سيقدمونه أخوتي الستة الحاضرون باتخاذ الإجراءات المناسبة في مثل هذا الموقف.
– وهكذا قلتُ لأخي أذهب.. وأنا سألحقك خلال ساعة إن شاء الله.
– دخلتُ الامتحان.. وكان الله معي في الشدائد دائماً.. وبسرعة فائقة.
– وخلال 50 دقيقة أجبتُ على كل الأسئلة.. التي كان وقتها المحدد بثلاث ساعات.
– وخرجتُ مسرعاً.. ركبتُ سيارتي.. وانطلقتً بحيث لم أبقي سيارة أمامي.
– وصلت المستشفى لأجد أخوتي أكملوا مراسيم استلام جثمان والدي تواً.. وهكذا لم أتأخر.
بقيً أن أقول عندما ظهرت النتائج كنتُ الأول.. وبامتياز في اختبار نهاية السنة النظرية للماجستير.
– فرضا الوالدين من رضا الله.. وأوفيت أبي بتنفيذ وصاياه بحصولي على أعلى الشهادات بامتياز.. وأن لا أوذي أحداً.
المشهد الثاني:
– في يوم مناقشتي لأطروحتي الدكتوراه.. ومنذ الصباح الباكر.. لذلك اليوم.. أخذت عناصر المخابرات ولدي الوحيد من بيننا.
– وكان المفروض أن يؤدي هو امتحانه النهائي للماجستير في ذلك اليوم ايضاً.. ليستكملوا الحالة باعتقال عشرة من شباب المنطقة.
– لا أدري أين أخذوه؟.. ولا اعرف ماذا أعمل؟.
– تذكرتُ صديقي جبار حمود “أبو عمار” رحمه الله.
– هذا الرجل الذي ينطبق عليه المثل القائل: “تضعه على الجرح.. يطيب”.
– اتصلتُ به هاتفياً.. وقبلً أن أكلمهُ.. قال :”إنني خلال ربع ساعة سأكون في قاعة المناقشة”.
– ذهبتُ للمناقشة.. وقلتُ لزوجتي وبناتي (لا تخافوا على غزوان.. والله معنا)
– دخلتُ قاعة المناقشة.. وكنتُ شديد العصبية في إجاباتي على أسئلة واستفسارات أساتذتي المناقشين.
– حتى إن الدكتور عبد السلام رؤوف.. أحد المناقشين سألني عندما انتهت المناقشة: ماذا بكً اليوم؟
– حكيتُ له ما جرى.. صدمً الدكتور.. ولم يستطع أن يتكلم.
المهم: خرجتُ أنا والصديق أبو عمار.. وذهبنا الى بعض معارفه من الحزبين الكبار.. وبعض المسؤولين في الأمن والمخابرات.
– وقابلتُ أنا الدكتور عبد الستار الراوي مدير المخابرات آنذاك.. ووعدونا بأن لا يساء إليه أبداً.
– وبعد تحرك متواصل فهمنا إن التهمة الموجهة إليه وأصحابه هي: “إنهم كانوا يصلون صلاة المغرب في جامع الرسول في منطقتنا يومياً سويةً.
– ويبقون بعض الوقت داخل الجامع بعد الصلاة”.. وكانوا متابعين من قبل عناصر الأمن.
– تحركتُ بقوة.. وصرفتُ كل ما عندنا.. حتى سيارتي الأولدزموبيل الجديدة.
– التي كنتُ قد اشتريتها قبل اعتقاله بيومين سلمتها هدية لإطلاق سراحه.
– واحد وسبعون يوماً.. وأمه لم تغمض عينيها دقيقة واحدة منذ لحظة اعتقاله.
– والحزنُ والمفاجأة أوقعها بجلطة.. وبمرض السكري.. والضغط.. الذين مازالا حتى الآن تعاني منهما.
– بعد أن يأسنا.. إلا من رحمة الله.. قالت ليً أمه: غداً فجراً نذهب إلى كربلاء للزيارة.
– وهناك تذكرتُ خبز العباس.. وأمام شباكه ناديته بقلبِ مفجوع على ابني الوحيد.. الذي قد يعدم بأية لحظة.
– وقلتُ: “سيدي أبا الفضل بجاهكً عند رسول الله.. وبشفاعة سيد الخلق عند ربِ العزة.. أن أجد ابني في البيت.
– وخبزكً أوزعه بيدي لكل حينا”.
– وانهمرت دموعي بغزارة المطر.. وعدنا من الزيارة الى البيت.
– وإيماني بالله يزداد ثقةً.. بأن أبني سيطلق سراحه.
– في ضحى اليوم التالي اتصلً ابني هاتفياً بنا من معتقل الحاكمية.. ليقول: (بابا تعال اعملي كفالة).
– وفي الحاكمية سألت الضابط المسؤول.. فقال هذه الكفالة شخصية وروتينية.. وابنك وأصحابه خرجوا أبرياء.
– وهكذا أوفيتٌ نذري.
– بقيً أن أقول كانت نتيجتي في الماجستير والدكتوراه.. الامتياز.. مع التوصية بطبع الأطروحتين على نفقة الجامعة.