طرح سماحة السيد مضر الحلو سلسلة مقالات تحت عنوان (مآلات الخطاب الديني) والتي سلط من خلالها الضوء على مآلات الخطاب الديني وتراجعه الديناميكي بصورة مؤلمة وما صاحبها من حالة انقلاب حاد في المعايير والمفاهيم الفكرية والفلسفية, التي لاتسمح لاي منصف ان يغض النظر عنها او تجاوزها.
ما يعني ذلك ان الخطاب الديني فقد بوصلته وقوته وتأثيره المغناطيسي على عقل المسلم. مما جعل الخطاب الديني ان يقف في قفص الاتهام, بعد ان كان ينظر له منبر توعوي اصلاحي مشع يستلهم منه المسلم بكل سكينة وهدوء الموعظة والقيم والمثل العليا.
فهناك سيل من التصرفات البدائية والسلوكيات المخجلة من قبل بعض الخطباء التي جعلت من الخطاب الديني موضع استهزاء وسخرية منه ومن رجالاته. فاصبح ينظر اليه عبئاً اجتماعيا على الفرد المسلم بعد ان كان يمثل هوية وانتماء.
تحدث سماحته عن ماهية الدين وحركة الانبياء في القرآن الكريم, والبعد الاخلاقي لتلك الحركة الدعوية والمهمة الرئيسية للاديان, والهدف الاسمى للانبياء باعتبارهم مبشرون للقيم الاخلاقية والانسانية والعدل الالهي.
كما في دعوة نبي الله شعيب (ع) ( وَإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأوفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) 85 الأعراف
وكذلك في دعوة نبي الله لوط (ع): ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) العنكبوت.
ومن هنا يشير سماحته الى كثرة الوعاظ وتدافع الخطباء على المنابر الاسلامية و الاعلامية المتعددة في كل المناسبات الدينية على مدار السنة. ورغم الكم الهائل من المنابر الوعظية, الا ان الخطاب الديني لم يحقق ما يطمح له من سمو اخلاقي والتزام ديني, او تقدم انساني على مستوى العقل والوعي والابداع.
حيث يعصف الفشل والتخلف والتقهقر والنكوص في مجتمعاتنا العربية والاسلامية وتراجع القيم الانسانية فيها, وتنعدم المبادرات الايجابية وتنتشر الظواهر السلبية التي تهدد الاسرة والمجتمع. كما يشير سماحته الى احصاءات ومسوح علمية صدرت عن القمة الحكومية العالمية التي عقدت في دبي حيث تشير الى تراجع كارثي في التنمية البشرية وفساد مالي يتجاوز ترليون دولار, والعراق في مقدمة الدول العربية.
واعداد مهولة تعيش تحت خط الفقر وتراجع في العلم والمعرفة والتصنيفات العلمية, فضلا عن موجة الإرهاب والحروب والفتن الداخلية فهي من نصيب العرب والدول الاسلامية وانظمتها السياسية الفاشلة وعدم اكتراثها لمواطنيها. بالوقت الذي نرى ان الكثير من الدول الاوربية والاسوية تتقدم في حقولها العلمية والمعرفية والانتاجية وتحقق خطوات متقدمة في طريق التنمية.
ومن هنا يحمل سماحة السيد بعض خطباء المنبر جزء من هذا النكوص, ويؤكد بكل أسف على ان الخطاب الديني في هذه المجتمعات فقد تأثيره الإيجابي, وفشل في بناء مجتمع سليم معافى, لكونه لا يعالج الفساد وموجات الكراهية والاحقاد والكذب والنفاق والغش.
والسبب يعود الى سطحية بعض الخطباء وسذاجة ما يطرحونه من مفهوم للدين باطار ضيق ومنغلق يسلب الانسان ارادته وتفكيره وحريته. وهذا الخطاب يبني فردا خائفا مترددا ومهزوما. وذلك عن طريق التخويف والترويع والترهيب بتفاصيل عذاب القبر والبرزخ بما لا حجة لهم به، وهذا الخطاب يساهم في تشويه صورة الله الرحمن الرحيم عند المسلم، وتأزيم علاقته بربه.
ويستطيع المراقب بكل بساطة ان يرصد الخط البياني المتصاعد للانحراف والتراجع الديني من قبل الشباب المسلم في المجتمعات الاسلامية, ليجعلوا من الله خصما لهم للاسف الكبير, وذلك بسبب الانحباس والتزييف الفكري لمفهوم الدين, وذلك بسبب التورم والتضخيم والتسذيج داخل الخطاب الديني, لرسم صورة مفزعة لله تؤدي إلى الغرق في القنوط والقلق والخوف, وكأن الإنسان المؤمن في معركة مزمنة مع الله.
يقوم سماحة السيد ومن على شاكلته من عقلاء رجال الدين بالمبادرة والمصارحة بمخاطر هذه التطورات وتداعياتها, وذلك من خلال إستعادة الوعي والاستيقاظ من المشاحنة والغضب والحد من خدش الذات الإلهية, وتجسير علاقة الانسان بخالقه الغفور الرحيم على أساس المحبة وحسن الظن, والتذكير بقول الله تعالى
(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم) الزمر : 53.
وقد شخص سماحته أسباب الإخفاق للخطاب الديني عبر التحليل الانثروبولوجي لحركة المجتمع والاختراق الذي تحقق داخل الفضاء الاسلامي وتغيير موازين القوى المعرفية والفكرية. من خلال المناهج التربوية الخاطئة الذي اعتمدها الخطاب الديني مرتكزا على العبادات وشعائرها, مهملاً لمبادئ الاخلاق والقيم الروحية. مما شهدت تلك التداعيات غياب للامن الفكري وخلق ارتجاجات تربوية وسلوكية مذهلة. وهذا ما دفع المسلم الركون الى العبادات والحفاظ عليها وعلى شرائطها واشتراطاتها خوفا من العقوبة. متناسيا باب المعاملات التي تمثل جوهر الاسلام وروح الدين, لكونها لاتحظى باهتمام الخطيب وتقع في هامش حديثه.
ومن اسباب الاخفاق الاخرى هي ما يتمتع به الخطيب الديني من لغة استهلاكية باذخة تسمح له الخوض في كل شيء إلا جوهر الدين وروحه, كما تعتقد الغالبية العظمى من الناس ان الخطيب وكيل الله والناطق الرسمي باسمه, لما يملكه المنبر من سطوة وهالة روحية عالية. ولكن للاسف هناك من يحرض عمدا على تسويف العقل وخطف التفكير المتوازن وتصديع الانتماء الروحي للدين واخضاع المتلقي الى منطلقات سطحية مستهلكة والاستسلام لزوايا خاصة يفرضها الخطاب الديني, وهذا الارتباك يجعل الخطاب الديني يستهلك عافيته ويترجل من اعمدة المنابر ويغادر موقعه الريادي.