الطاطران محلة بغدادية قديمة إقترن اسمها بالقاص والروائي الراحل عبد الستار ناصر لكثرة ما يذكرها في قصصه ورواياته ومن ثم أصدر رواية حملت عنوان (الطاطران ) لتكون علامة بارزة في مشواره الأدبي الطويل وإنجازه الثر في القصة والرواية التي تجاوزت الخمسين كتابا ، لم تكن الطاطران محلة بغدادية كما يعتقد البعض إنما هي درب من دروب محلة (ابو سيفين ) المعروفة ببغداد لكن ناصر بخياله الواسع جعل منها محلة قائمة بذاتها يعرفها قراء الأدب مثلما فعل السياب في بويب جدول قريته الصغير . ولد عبد الستار ناصر في بغداد عام 1947 لكن قلبه الذي أضعفته قساوة الحياة والغربة وتقلباتها جعلته يخضع لعمليات جراحية حتى غادر الحياة في منفاه الكندي في 03/08/2013 وسط ذهول محبيه وأصدقائه . لقد استطاع ناصر ان يستولي على قلوب وعقول قرائه بما كتبه خلال مسيرته الأدبية فكان الإنسان الطيب والمثقف البارع والكاتب المحب ، عاش حياته بكل عنفوان المبدع وصخب العاشق للجمال والنساء والخمر والمقامرة ، وترك في نفوس من عرفوه حسرة كبيرة على فراقه المؤلم . في منتصف عقد التسعينيات كان ناصر يزور عمّان باستمرار وحتى أوآخر ذلك العقد قرر عدم العودة للعراق ليغادر من عمّان الى كندا عام 2011 بعد ان تعرض الى عملية جراحية كبرى في القلب الذي خذله في كندا بعد سنوات قليلة .وفي بغداد أذكر بعد حرب عام 1991 التي قصمت ظهر الجيش العراقي ودخول البلاد مرحلة الحصار الاقتصادي المؤلم شكل عدي صدام حسين التجمع الثقافي العراقي وانشأ جريدة بابل ، وقد كلف الكاتب عبد الستار ناصر بالاشراف على صفحاتها الثقافية بما يخدم النظام والمرحلة آنذاك، ووافق عبد الستار مرغماً . واستطاع أن يخرج يومياً صفحة ثقافية مكتظة بالمقالات والقصائد والدراسات المهمة وغالبيتها كانت تتوجه نحو بناء إرث ثقافي عالي الجودة بعيداً عن التطبيل والتزمير للنظام ، كما وجعل من قصائد جان دمو الدادائية أن تطرز صفحات بابل الثقافية ، بينما عدي كان يتابع ويقرأ كل ما ينشر في جريدته حديثة العهد حتى وصل الى نتيجة أنه لا يفهم ما ينشر على صفحات بابل الثقافية الأمر الذي أضطره ليرفع سماعة الهاتف على المحرر الثقافي عبد الستار ناصر واوغل في شتمه ! ومستفسراً منه عن هذه القصائد الغير مفهومة المعنى ؟
فرد عليه ناصر : يا أستاذ هذه قصائد يقال عنها دادائية . فرد عليه عدي ، وما معنى دادائية ؟ فقال ناصر : الدادائية هي حركة فنية جريئة باقية بقاء الفن والأدب في حياة البشر شكلت في أوروبا بداية القرن العشرين من قبل تريستان تزارار لرفضه الحرب العالمية الاولى ، وقبل أن يكمل عبد الستار ناصر تعريفه للدادائية صرخ به عدي وبقوة : أنت مطرود يا عبد الستار من الصفحات الثقافية للجريدة مع عقوبة ! فضحك ناصر ليعود أدراجه بهدوء الى أحضان القصة والرواية والمقالة وحانة إتحاد الأدباء ومقهى حسن عجمي حيث الأصدقاء الذين لا يمكنه الإستغناء عنهم . لقد استطاع هذا المبدع في ظروف غاية في الخطورة والصعوبة أيام النظام السابق أن يضحك على المؤسسة الاعلامية والثقافية التي كان يديرها عدي وينشر العديد من النصوص التي كانت تسخر من ذلك النظام ومن تصرفاته الرعناء، وكم كتب من القصص الجريئة التي ذهبت به الى زنزانات السجون بسخريته العالية من رأس النظام وكانت مجموعته القصصية الشهيرة ( سيدنا الخليفة ) التي أدخلته السجن وأقترب منه الموت وأصبح قاب قوسين أو أدنى لكن العناية الإلهية أنقذته، أنه كاتب شجاع بحق وقلّ ما نجد كاتباً بشجاعة قلمه ، عبد الستار ناصر ثروة أدبية عراقية وعربية كبيرة وطاقة إبداعية عالية حلقت في سماء الأدب ضمن جيل الستينيات الذي قدم الكثير من الأسماء المهمة في القصة والرواية والشعر . رواية الطاطران للراحل الكبير عبد الستار ناصر هي رواية تتكون من خمسة فصول وب 85 صفحة لكنها تحمل ثنائية الوطن والمنفى ونقدهما ، الفصل الأول جاء بعنوان شميم الهجرة ، والثاني شتاء طري ساخن ، والثالث قبعة على بركان ، والفصل الرابع بالط الخنازير ، والأخير كان بعنوان جيكولو بالنبيذ المعتق . الطاطران صدرت عن المؤوسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان عام 2007 وكتب عبد الستار ناصر فيها عن غربته القاسية وعن نفسه المحبة العاشقة حيث يقول: ( صوت أجش يصرخ في رأسي ، يكفي أيها الأبله ، يكفي هذا الندم السخيف ، جئت من بغداد من زقاق لا يعرفه أحد وأنت لا تملك أي شيء ، وها أنت فعلت الكثير ، أكثر مما تظن . نساء من أجمل ما خلق الله ، وخمور من أعتق سراديب روما ، وليال ما كان أجدادك ليحلموا بها ، أوروبا كلها بين يديك ، يمكنك الرحيل الى أي بلد تشاء وفي أي ساعة تريد . أي شراهة تملأ نفسك وأي طمح أراك فيه .) .