الكاتب محمد الكلابي
في لحظة عابرة، وأنا أسير في شارع مزدحم أو أنتظر في طابور أو أستقلّ وسيلة نقل، تتسلّل إلى أنفي رائحة أنثوية نافذة، لا كالعطور الخفيفة التي تحترم حدود الجسد، بل كرائحة حارقة تشبه التصريح بلا صوت، تنفذ لا إلى أنفي وحده، بل إلى منطقة في أعماقي تُستثار دون أن أطلب، وتُشعل في مخي نارًا صامتة، كأنها تُنادي: «اشتهِني دون أن تراني»، في تلك اللحظة، لا أفكر في جمال صاحبة الرائحة، ولا شكلها، ولا لونها، بل أحكم عليها من حيث لا أدري، أحكم عليها أنها فرّطت في احترامها، وقدّمت أنوثتها للمارّة على طبق من الرائحة، وتركت أثرها في أنفي وذهني، وأعطتني ما لا أريد، دون أن أسأل، ثم تمضي بثقة مزعومة أو لا مبالاة فارغة، كأن شيئًا لم يكن. ولست هنا أُبالغ، فإنني كرجل طبيعي لا أستطيع أن أتحكّم بتلك الاستثارة التي يخلقها العطر الفوّاح في الهواء، لأنها استجابة غريزية فطرية موثّقة علميًا ونفسيًا، فدماغ الرجل مرتبط مباشرة — من الناحية العصبية — بحاسة الشم عبر مناطق مثل اللوزة والمهاد، وهذه المناطق مسؤولة عن تفعيل الإثارة والانتباه الوجداني، لا الإرادي، ولا تمر على العقل الواعي أولًا، بل تخترقه وتستدعي الخيال والرغبة والذكرى دفعة واحدة. وهذا ما يفسّر الصدمة الأخلاقية التي أعلنها النبي ﷺ حين قال: «أيّما امرأة استعطرت، فمرّت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية»، حديث قد يبدو للسطحيين قاسيًا، لكنه في حقيقته توصيف دقيق لأثر العطر الموجّه عمدًا في طريق الرجال، فالنبي هنا لم يصف الفعل بأنه مجرد زينة، بل شبّهه بالفعل الذي يُثير، ويختطف، ويؤسس للزنا الحسي، دون أن يُلمَس الجسد أو يُكشف. وهنا المأساة: أن كثيرًا من الفتيات حين تُنصحن، تردّ إحداهنّ ببرود فتقول: «أنا لا يهمّني كيف يفكّر الرجال»، أو: «أنا أضع العطر لنفسي، لا لهم»، أو حتى: «لا يخطر في بالي أصلًا أن أحدًا يلاحظ». وأنا أقول: هذه ليست عبارات قوة، بل ضُعفٌ في التفكير، وجهلٌ فاضح بالأثر، لأن الفتاة التي تضع عطرًا ثقيلًا ثم تزعم أن أحدًا لن يلتفت أو يتأثر، كمن تسكب البنزين في طريق وتقول: لم أقصد إشعال الحريق. وإن كانت تقول: «ما ذنبي إن اشتهى أحدهم؟»، فأقول لها: ذنبكِ أنكِ من وضعتِ الإشارة الأولى، وفتحتِ الباب، وسكبتِ العطر حيث لا ينبغي، والحرية لا تعني أن تختبري غرائز الرجال دون استئذان، بل إن الحرية الحقيقية هي أن تحفظي أثركِ لنفسكِ، لا أن تتركيه ذيلًا عطريًا خلفكِ في كل رصيف، العطر ليس زينة حين يُوجَّه للخارج، بل أداة إغراء، والرجل لا يحتاج أن يراكِ لتشتعل فيه الرغبة، أنفُه كفيلٌ بذلك، ودماغه يُستفز بالرائحة كما يُستفز الجسد بالنظر، وربما أشد. وليس هذا رأيًا شخصيًا، بل حقيقة علمية، مثبتة في علم الأعصاب والسلوك، تُدرَّس اليوم في أرقى الجامعات.
وإن كانت تردّد قولًا مثل: «أنا حرّة، وهم أحرار في ألا يتأثروا»، فأقول: هذه ليست حرّية، بل تعدٍّ صامت، لأنّكِ تفرضين على من حولكِ شعورًا لم يختاروه، تخترقينهم دون إذن، تستحثين استجاباتهم البيولوجية، ثم تتبرّئين من الأثر، وهذا تمامًا ما بدأ الغرب — الذي تُقلّده بعض بناتنا بلا وعي — في رفضه، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة حركات تحت عنوان “Fragrance Consent”، أي: «الموافقة على الشم»، إذ بات هناك وعي في المجتمعات الغربية أن بثّ الروائح القوية في الأماكن العامة هو انتهاك لحسّ الشخصيّة، واعتداء حسي على من لم يطلب منكِ شيئًا، فصار يُنظر للعطر الفوّاح بوصفه شأنًا حميميًا لا يُفرض على الآخرين، بل يحتاج موافقة مسبقة — تمامًا كالصوت العالي أو اللمس أو الاقتراب المفرط، وقد رأيتُ هذا بأمّ عيني، فأنا أعيش في السويد منذ سنوات، وزرت دولًا عديدة في أوروبا، من ألمانيا إلى النرويج، من فرنسا إلى سويسرا، ولم أرَ امرأة أوروبية تضع عطرًا فواحًا في الشارع، بل إن كثيرًا من الأوروبيات اللواتي ننظر إليهنّ — للأسف — في بلادنا نظرة انحلال، أكثر احترامًا لخصوصيتهنّ في موضوع العطر من كثير من فتيات مجتمعاتنا المحافظة؛ لأنهن يدركن أن الرائحة مثل الجسد، لا تُمنَح للغريب، ولا تُهدى للمارّة، بل تُحتفَظ بها لمن يستحقّها فقط، وهنّ، رغم ما في ثقافتهنّ من تحرر، لا يُفرطن في ما لا يجوز التفرّط فيه، بينما تأتي بعض بناتنا، وتُعطّر نفسها بكل ما تملك من عطور شرقية مثيرة، ثم تمشي بثقة جوفاء، وتقول: «أنا أضعه لنفسي»! فهل لنفسكِ هذا العطر الذي لا تشمينه؟ هل تحمّلتِ وزر الرائحة وأنتِ تمشين؟ أم أنفُ غيركِ هو من تحمّل، وخياله هو من اشتعل؟ يا عاقلة، إن كنتِ لا تدركين الأثر، فهذه مصيبة، وإن كنتِ تدركينه ثم تصرّين، فهذه خيانة لأنوثتكِ قبل أن تكون إساءة لمن حولكِ.
وأنا حين أشمّكِ في الطريق، لستُ متحرّشًا، ولستُ باحثًا عن فتنة، بل رجل يمشي في حاله، ثم يجد أن امرأة قرّرت أن تختبر رجولته دون أن تنظر إليه، وأشدّ ما يؤذيني أن لا أكون راغبًا، ثم تُرغمني أنفي أن أفكّر، أن أتخيّل، أن أتأثر، ولو لثوانٍ، فأنا لا أريد أن أشمّكِ، ولا أن أراكِ، لكنكِ كنتِ هناك، بعطركِ الذي سبقكِ، واخترقني، وترك فيّ شيئًا، ثم اختفيتِ، وتركتِني في صراع مع فكرة لم أختر أن أدخلها. وأنتِ، بكل بساطة، تقولين: «هم أحرار في ضبط أنفسهم»! نعم، نحن أحرار، لكننا لا نعيش في غرف زجاجية، بل نُختَبَر كل لحظة، وكل رائحة منكِ هي اختبار مفاجئ، وامتحان غير معلن، وحين تفشلين في احترام أنف الرجل، فلا تطلبي منه أن يحترمكِ بعينيه، أو بقلبه. في كل مرة تضعين عطرًا خارج بيتكِ، تضعين احترامكِ في المزاد، لا لأننا لا نحترم النساء، بل لأن بعض النساء تُصرّ على أن تُرينا أسوأ ما فيها — دون أن تنطق — عبر رائحة تُغني عن ألف كلمة، وتقول لنا كل شيء قبل أن نراها، وكلما شممتُ هذا النوع من العطر في الطريق، قلتُ في نفسي: هذه امرأة لم تعرف بعد معنى الوقار، ولم تفهم قدسية أنوثتها، وربما لن تفهم إلا حين تذوق طعم نظرات لا ترحم، وخيالات رجال لا يرحمون، وأنتِ أول من بدأ، فلا تشتكي من النتيجة. وأنا أقولها دون مجاملة: كلما شممتُ هذا النوع من العطر على فتاة في الطريق، سقطت من عيني، لأنني لا أرى فيها بعد تلك اللحظة أي هيبة، ولا أنوثة نبيلة، بل أراها وقد تحوّلت إلى إعلان حسّي يمشي، إلى جسد معطّر بلا عقل، وأشعر باحتقار داخلي لا أستطيع نكرانه، لأن من تستهين بأنف الرجال، وتدخل إلى أدمغتهم عنوة، وتسحبهم غريزيًا إلى حافة الخيال، هي ليست امرأة قوية، بل أنثى عاجزة عن إثبات وجودها إلا بالعطر، وهذه أضعف صورة للمرأة يمكن أن تُعرض.