صدر قبل أيام قليلة كتاب رسمي صادر عن جهاز الإشراف والتقويم العلمي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وقد أثار لغطاً واسعاً لدى الهيئات التدريسية، وعدّوا مضمونه نوعاً من الاتهام الضمني للتدريسي، خاصة أنّ المحتوى استخدم ألفاظاً كان الأولى بمن صاغ الكتاب أن يكون أكثر دقة ودراية باللغة وبطبيعة الشريحة المخاطَبة فيه، ويمكن النظر إلى الكتاب من زوايا ثلاث، الأولى ربط نسبة النجاح بالرصانة، الثانية متعلقة بإمكانية التدريسي وقدرته على إيصال المعارف إلى الطلبة، والثالثة ما يترتّب على الخطأ الحاصل فيما لو تمّ التحقق من تقصير التدريسي فيه.
وسأبدأ بالثالثة التي كانت أكثر خدشاً لمشاعر الهيئات التدريسية، وهي الأكثر اعتراضاً من قبلهم، فالكتاب من مضمونه قد تأسس على فكرة (الخلل في التدريسي)، وهذا واضح في عنوان الكتاب الرسمي: ” انخفاض نسبة النجاح والانحراف في التصحيح” وفي ربط انخفاض نسبة النجاح بانحراف التدريسي بالتصحيح، طلب الاستفسار من قبل المسؤول المباشر ” وهو إجراء طبيعي وسليم” ، تشكيل لجنة إعادة تصحيح على تصحيح التدريسي، إجحاف التدريسي في التصحيح، تشكيل لجنة تحقيقية، توجيه عقوبة انضباطية، استبعاد عن وضع الأسئلة والتصحيح، وأخيراً قد يصل الأمر إلى تحويله إلى العمل الإداري، وبمجموع هذه العبارات تتأكد فكرة أن (الخلل في التدريسي) وفق الكتاب الرسمي، دون النظر إلى ما سيجرّه ذلك من تبعات مضرّة للرصانة التي تدندن حولها مؤسساتنا التعليمية، ومن تلك التبعات أن التدريسي سيتهاون ابتداءً مع إجابات الطلبة في الامتحان، وسيجعل نسبة النجاح فوق المقبولة، ولن (يدوّخ نفسه) بإجراءات تهديدية احتواها هذا الكتاب، فضلاً عن أنه مقتنع في كل الأحوال أن الوزارة تسير باتجاه التساهل مع الطلبة منذ سنوات، وواضح ذلك في التوجيه بـ (عدم إعطاء درجة يائسة للطالب في السعي، حتى لو كان فحماً ولا يرى الأستاذ وجهه خلال السنة الدراسية، ثم بزيادة درجة القرار، ثم السماح بالامتحان للمرة الثانية والثالثة)، وفي كلّها يجب على التدريسي أن يضع نماذج أسئلة وعليه أن يصححها، طبعاً دون أي اعتبار لهذا الجهد)، كل ذلك فضلاً عن زيادة التنمّر من قبل الطلاب على الهيئات التدريسية بما أصبحوا يحوزونه من اتّكاءٍ على نفوذ حزبي أو عشائري او حتى تخويف من جهاتٍ ما!
القضية الثانية هي ربط تدنّي النتائج بانحراف التدريسي في التصحيح!، فقضية عدم وجود الإمكانية مسألة ظنّية غير يقينية، ولا يمكن تعميمها، ونسب النجاح المنخفضة مرتبط بحزمة أشياء أحدها -وهو مهم جداً- كفاءة التدريسي وامتلاكه لأدوات التوصيل والمحتوى العلمي، وثمة أسباب أخرى لا تقلّ أهمية عن ذلك، مثل عدم محاسبة الطلبة على التغيّب وعدم حضور المحاضرات، وطبيعة الدوام المسائي (الذي هو مشروع استثماري للجامعات ومن ثم الوزارة)، وعدم توفير مستلزمات البيئة التعليمية الجاذبة (مادياً ومعنوياً)، وثمة مسألة جوهرية هي السياسة المتّبعة للقبول في الدراسات العليا ثم الالتزام بتعيين كلّ حاملٍ لها وفق نوافذ لا علاقة لها بالعملية التعليمية: ” متضررين، موظفين، سجناء سياسين، ذوي شهداء)، فهؤلاء لهم مقامهم ومنزلتهم، ولكن ليس هذا موضعهم الصحيح، وهذا مما اعتمدته الوزارات في سياق عملها، والمنطق والرصانة يقولان غير ذلك، وكان الأجدر بالوزارات أن لا تضعف أمام الضغوطات (السياسية) وتعيّن كلّ من هبّ ودبّ إذا كانت تسعى إلى حيازة النوع لا الكمّ، حينها يمكن أن يصحّ مضمون هذا الكتاب على أمثال هؤلاء، وكان الأولى أن تحدد نقطة الخلل بطريقة واضحة دون تعميم جعل الهيئات التدريسية ممتعضة، في حين جعل الطلبة الفاشلين يتنفسون الصعداء، فقد هيأ لهم هذا الكتاب نقطة قوّة تزيد من قوتهم على حساب وجود وتأثير الأستاذ الجامعي الذي كان ينبغي أن تقوّي الوزارة مركزه ووجوده في ظلّ هذا التفلّت والانحراف السلوكي والإداري.
القضية الثالثة هي لماذا نربط نسبة النجاح أو انخفاضها بكفاءة التدريسي أو عدمها؟ ثمة أساتذة فاشلون ولا يقدّمون قيمة علمية ولا يصحّ لهم أن يقفوا في هذه المنزلة السامية، فيعوّضون فشلهم ويتجنّبون شكاية الطلبة منهم بإنجاح الكلّ أو الأغلب، وتسهيل المادة إلى أقل القليل مما هي في المناهج المعتمدة، بل إن بعضهم ينجّح الجميع حتى لا يضطرّ إلى تصحيح في الدور الثاني أو الثالث، فلماذا هذا التعنّت بالربط؟
ختم الكتاب بتوصيتين مهمتين غاية في الأهمية هما (٧،٨) وكان يمكن أن تكونا أصل التوجيه وماعداهما هوامش تفصيلية، وهاتان النقطتان تمثلتا بعدم زجّ التدريسيين الجدد بالتدريس دون تأكد من وجود إشراف من أستاذ قديم ذي معرفة وخبرة، وبإعادة النظر بدورات طرائق التدريس التي حوّلتها بعض الكليات إلى قناة استثمارية متجاوزة بذلك وجود مركز خاص بكل جامعة هو (مركز التعليم المستمر) الذي هو الأدرى والأكثر تخصصاً في المحتوى الذي يقدّمه في هذا الموضوع.
وأختم أنه كان ينبغي أن يكون الكتاب الذي تعمم على الجامعات حول هذا العنوان أكثر تحديداً للخلل، وأكثر إنصافاً للتدريسي، وأن لا يجعل من الحالة الفردية حالة عامّة منتشرة، بما يوحي أنها هي الظاهرة الأغلب والأكثر حضوراً، وأذكّر هيأة الرأي بأن الرصانة العلمية والارتفاع بسمعة التعليم يكون وفق الحزم والتشدد الموزون، فهو كفيل بتحسين الحال، وإذا تعاضدت متابعة الوزارة وتعاهدت برامجها في مؤسساتها تعاهداً جوهرياً لا شكلياً، وأشعرت الهيئات التدريسية بمقامها وراعت حقوقها ووضعتها في الأولوية حينها لن تحتاج إلى إرسال كتاب بلهجةٍ شديدة ومشككة بأهم عنصر من عناصر العملية التعليمية وهو (الأستاذ الجامعي).