‎كثيرا ما يخلط البعض بين ما يسمى “جلد الذات” و”المراجعة “. بينما الفرق شاسع بين النهجين. إلى حد أنهما نوعان من التفكير مختلفان تماماً! “فجلد الذات” حالة من النبش والحفر العاطفي الانفعالي في الأعماق نتيجة إدراك متأخر للخيبة أو الفشل وإلقاء اللوم على النفس وتبرئة الآخرين من أية جريرة في ما حصل تحت تأثير قناعات أخلاقية أو دينية أو تقدير غير دقيق للعدالة والقانون! وهي حالة تتعدى الشعور بالذنب وتأنيب الضمير المعقول إلى نزعة قهر الذات وإنزال العقاب فيها بأقسى قدر وبسلسلة تبدأ من التصورات الذهنية والأفكار القاسية والمدمرة إلى الانتحار المعنوي أو الجسدي! وعموما هي حالة سلبية انهزامية قاتلة لكنها في معيار العدالة الإنسانية أفضل من حالة الركون للتحجر والجمود والضمير الميت والاصطفاف مع الشر والباطل والغباء المستفحل بين حشود كبيرة وإلى ما لانهاية . أما “المراجعة” فهي شيء آخر تماما ، إنها تأمل المرء بعمق لمسار ذاته لوحدها أو في وجودها ونشاطها ضمن ركب كبير سواء كان حزبا أو حركة سياسية أو دينية أو مجتمع بأسره فينبري لتحليله بما امتلك من وعي جديد عبر تراكم معرفي أو خبرات حياتية وتجارب قاسية فيصل إلى ذروة يجد المرء نفسه في نقيض ما أعتقد أو آمن به ،وضد كل ما سار عليه مع هذه الجموع الغفيرة فيتحدث عن كل ذلك بصراحة وعمق وموضوعية. وحسب قدراته! بعبارة أخرى مقاربة الذات والبوح بمكنونها بواقعية مطلقة قد تبدو جارحة وموجعة أحيانا،ولكنها تظل غير خطرة أو مدمرة بل على العكس هي بناءة ومثمرة. بذلك طبعا سيجد من يقوم بالمراجعة نفسه في خضم آلام شعبه كلها، مواجها السؤال الأساسي ” لماذا حدث كل هذا؟، كيف حدث؟ ومن يقف وراءه؟ أين الخلل؟ وهل يكفي أن نلقيه على شماعة الأعداء ونستريح؟ وهذه العملية مهما بدت كئيبة وحزينة لكنها تحمل فحوى المستقبل وآماله، وهي أبعد ما تكون عن جلد الذات بل تتم في إطار احترام الذات، واحترام الآخرين من خلالها ، وهي ضرورة لا تحصل من أجل النفس بل من أجل الناس والأجيال القادمة كي لا تتكرر المأساة ويتوالى الخطأ وتحل الكوارث والنكبات.عند هذا يجد المرء نفسه في فراق أو اغتراب عن الفكرة التي اعتنقها بتأثير بيئة ضاغطة وضعف مداركه السابقة حين كان شابا يافعا قليل الخبرة والمعرفة والآن يحتاج لجرأة وشجاعة فائقة لمغادرتها. والإنسان له كل الحق في هذه المراجعة فهي كنه وجوده وحريته، كما لا يحق لغيره منعها أو الوقوف بوجهها لإحباطها فهم بذلك يمارسون سلبا لحرية الآخرين ووجودهم. لكن من حقهم قبولها أو رفضها وضمن الحدود الإنسانية . المراجعة مأثرة وواجب يمارسه مثقفون ومبدعون عادة بوعي متأخر أو في وقت مناسب يحتم عليهم دق جرس الإنذار وإشهار خلاصة ما توصلوا إليه واقتنعوا بصوابه أو دقته، لكن من قام بالمراجعة في مجتمعاتنا خاصة يجد نفسه في خضم صراع أو حرب شعواء ظالمة مع كثيرين خاصة الرعيل القديم الذي كان معه تحت خيمة الفكرة السابقة! وهم متمسكون بأفكارهم القديمة رغم كل ما حدث من كوارث ومصائب للشعب والوطن. والتي لم تكن بمعزل عن تلك الأفكار والمواقف ومساراتها واستنتاجاتها الخاطئة! كل ذلك بحجة الصمود والثبات على المبدأ رغم مضي عشرات السنين على انطلاقه وعدم مراجعته وتطويره من قبلهم! المراجعة العميقة والجريئة والتي تمثل نموذجا في شجاعة العقل ونقاء الضمير كثيرا ما قادت مفكرين ومبدعين همهم وشعارهم البحث عن الحقيقة إلى السجون أو الموت بيد حكام مستبدين متجبرين يرفضون أي حوار أو جدل رغم ادعاهم للديمقراطية. ودفعت من نجوا إلى المنافي حيث ألفوا أطروحات وروايات و قصائد بموضوعها الأزلي ممجدين العقل الإنساني في كونه في جوهره حيويا متحركا يتطلع للتغيير أبدا لا جامدا أو متحجرا،يركن لتفسيرات وتحليلات حكام وقادة سياسيين جهلة أغبياء ترهلوا في مواقعهم وما تمنحه لهم من نعم وامتيازات بينما يدفع الثمن الباهظ الناس البسطاء أو ما يسميهم العراقيون ” ولد الخايبة”! معسكر عدم المراجعة والتصدي للمراجعين بالقوة والعنف حيث لا فكر لديهم تتلخص حجتهم بالثبات على المبدأ وتقديسه واعتباره معصوما وكلي القدرة! وقد تعمد بدماء آلاف الشهداء. بينما الواقع يستصرخه للحركة والتطور والخروج من مكانه القديم وقد أصبح آسنا لركوده زمنا طويلا !
‎ولعل أشهر صيحات ودعوات المراجعة والتغيير في التاريخ الحديث هي صيحة كورباجوف في الاتحاد السوفيتي سابقا عبر البرسترويكا والغلاسنوست والتي أفضت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي لا لخطئها بل لكونها جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان، حيث كان قادته السابقون يرفضون أي نقد أو مراجعة ويضعون من يبدي رأيا مخالفا في معسكرات الاعتقال في سيبريا وغيرها من سجونهم الرهيبة. حتى استيقظوا أخيرا على الحقيقة المرة أن ما يبنى على الخطأ ينهار بهبة ريح! ويبدو أن الصين استفادت من تجربة السوفيت الفاشلة ومن تجاربها إبان الثورة الثقافية واقتربت من المقولة الشهيرة : (النظرية رمادية، والحياة خضراء) ، وها هي اليوم تتطور وتفرض نفسها في الساحة الدولية كقوة عظمى منافسة للكثيرين. وهي أيضا معرضة للانهيار إذا جمدت على نظرية معصومة وادعت قوة خارقة للمستحيل. وعلى صعيد الثقافة العربية الفت الكثير من الكتب في المراجعات العميقة والجريئة حول النكسات والهزائم خاصة بعد هزيمة حزيران 1967 والواقع المتخلف منذ عهد طويل و يبرز في هذا المضمار كتاب توفيق الحكيم “عودة الوعي” ، رغم أن روايات نجيب محفوظ تكاد تكون كلها صرخات وعي متفجر وتنبيه ضد الأخطاء والأوضاع السيئة في مجتمعه، وأنظمة حكمه . وفي انجلترا كانت مسرحية ( انظر للوراء بغضب) لجون أوزبورن بداية الستينات من القرن الماضي ، انطلاق موجة مراجعات لم تتوقف حتى اليوم. وفي جميع أنحاء العالم لم تتوقف المراجعة والتمحيص من قبل مفكرين ومبدعين عبر الرواية والشعر والأفلام تتصدى للخطأ والانحراف وتجاهل الحقائق وذلك بعقل ناضج وضمير حي يراقب بدقة ونزاهة مطلقا صيحات التنبيه والاعتراض والإدانة كلما وضع يده على الخلل ومجافاة الواقع وقوانينه الموضوعية، أو تنكر للقيم الإنسانية الكبرى! وهؤلاء يرون أن إبداعهم لا يتنافى مع تطلعهم ونضالهم من أجل حياة صحيحة عادلة لا تتبجح بالسعادة الوهمية بل تعمل على تحقيقها بدأب وصدق! والعراق الذي هو اليوم في لجة انهيار وسقوط لم يشهدهما طيلة تاريخه الحديث والقديم أحوج ما يكون لمراجعة عميقة دائبة لماضيه السياسي والثقافي والديني من قبل مثقفيه ومبدعيه لا ينبغي أن توقفها أو ترعبها تحفظات وتشريعات أو مقاومة فكرية أو مادية من هذه الجهة أو تلك خاصة لدى المستفيدين من جهل وتجهيل وغفلة الكثير من الناس بوصم كل مراجعة على أنها ” جلد الذات” وإنها “حالة مرضية” أو أنها مروق أخلاقي وخرق قانوني . ومن المفارقات المضحكة المبكية أن من يقول ذلك هم مرضى جمودهم وتحجرهم وتخلفهم و”ساديتهم” الموغلة في تدمير الوطن والناس والحياة!

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *