(لا أرى شرًا لا أسمع شرًا لا أتكلم شرًا)
كونفوشيوس
تعود أصول أسطورة القردة الثلاثة الحكيمة إلى الأساطير الصينية القديمة. وهم ثلاثة قردة الأول يدعى (ميزارو) وهو قرد يغطي عينيه كي لا يرى، والثاني يدعى (كيكازارو) وهو قرد يغطي أذنيه كي لا يسمع، والثالث يدعى (إيوازارو) وهو قرد يغطي فمه كي لا يتكلم.
تبدأ القصة بإرسال الآلهة لهذه القرود الثلاثة إلى البشر كمراقبين ورسل بين عالم الآلهة والعالم البشري. وكان الهدف هو أخذ شهادة عن أفعال البشر السيئة لإخبارها فيما بعد لآلهة الأساطير الصينية. ورغم أن القردة الثلاثة مرسلون من قبل الآلهة إلا أنهم كانوا يعانون من نقص. فلقد خلقتهم الآلهة بواسطة تعويذة سحرية أعطت كل واحد منهم ميزتين وعيباً واحداً.
كان كيكازارو القرد الأصم، مسؤولاً عن مراقبة البشر، وهو الذي ينقل ملاحظاته إلى ميزارو القرد الأعمى، الذي ينقلها بدوره إلى إيوازارو القرد الأخرس. وعلى الرغم من أن إيوازارو لم يستطع التحدث، إلا أنه كان بإمكانه التواصل مع الآلهة، وبالتالي كان مسؤولاً عن تنفيذ العقوبات التي أرسلتها الآلهة إلى البشر بسبب أفعالهم السيئة.
ترتبط الكثير من المعاني بالقردة والمثل من ضمنها الربط بينها وبين رجاحة العقل والكلام وحسن التصرف، بينما يمكن ان تُستخدم هذه العبارة للإشارة إلى من يبحث عن طُرق للمخالفة ثم يرفض الاعتراف بها ويدعي الجهل.
اليوم ، ومع رغبة آلهة التكنولوجيا الرقمية في تقمص الدور الكونفوشيسي وفق مفهوم أن إدراك شر هذا العالم يحمينا من تهديد الشر ، يتم توظيف خوارزميات الفقاعة و الترشيح على منصات الأنترنيت كحراس قيم للبوابات من النوازع الشريرة فينا والتي نعبر عنها بكتاباتنا . لكن أي شرور تستهدف ؟ وكيف يتم تصنيفنا على أننا (سيئون) أم (صالحون)؟.
الشر هو الاستثناء وليس القاعدة في هذا العالم. صحيح أن لدينا جميعا جانبا مدمرا ، لكن الأكثر شيوعا هو أنه ليس قويا بما يكفي لتعاقبنا آلهة التكنولوجيا الرقمية وتفرض علينا شياطينها لمراقبتنا وأخراسنا عندما لا يتوافق ما نقول به مع قيم حراس بواباتهم المتحيزة ،هناك العديد من الناس الذين يعيشون بصدق وبناء ،هناك أشخاص طيبون أكثر من الأشرار في هذا العالم يرفضون رؤية الشر أو سماعه أو التحدث عنه ، لكن هذا لا يعني أنه سيختفي من العالم.
اليوم ، وفي أعادة قراءة لكتاب( فقاعة الترشيح: ما يخفيه الإنترنت عنك، تأليف إيلي باريسر).وهو ليس مجرد كتاب يناقش المدى الذي وصلت إليه التكنولوجيا، ولا يريد أن ينظر إلى التقدم على أنه سلبي بالضرورة. بل يلقي نظرة موضوعية على نوع السيطرة التي تمتلكها بعض الشركات الكبرى على معلوماتنا.
يحذرنا بارسير بالقول (( يشعر معظم الناس بالفضول بشأن مكان حفظ المعلومات الحساسة، وتبذل الشركات قصارى جهدها لضمان عدم بيع العملاء أبدًا لأطراف ثالثة. لكن الإنترنت أصبحت الآن مكاناً يشعر فيه كثيرون بسعادة غامرة (إن لم يكونوا على علم بذلك ) إلى الحد الذي يجعلهم لا يشاركون المعلومات الخاصة بهم، والصور، فضلاً عن ما يعجبون به وما لا يعجبهم)).
إن باريسر على حق في تحذيرنا من العناصر المخفية التي تستخدم هذه المعلومات لصالحها، وذلك لأسباب إعلانية أو سياسية أو لأي سبب آخر.
يؤكد باريسر على ما شكك فيه الكثيرون لبعض الوقت حول (حرية الإنترنت) ويقول ( أن الإنترنت لم تعد مساحة حرة مستقلة، ولكنها أصبحت خاضعة لسيطرة تجارية وشخصية إلى حد أنها بدأت تتحكم في حياتنا ، أن الوكالات والشركات ذات الدوافع الخفية كانت مشغولة لسنوات بإيجاد طرق لفهم أفضل لمستخدمي الإنترنت، وعاداتهم الاستهلاكية، وطقوس التصفح الخاصة بهم. ، وأخيراً لم يجدوا غير خوارزميات الترشيح التي تحبسنا في فقاعة بدل منحنا مساحات أكبر للحرية).
لقد تم تناول مسألة السلطة والسيطرة على الإنترنت من قبل مؤلف كتاب The( وهم الشبكة – Net Delusion) يفغيني موروزوف، الذي ركز على قدرة الإنترنت على كشف الديمقراطية. لكن التوجه الرئيسي لكتاب باريسر هو الإشارة إلى أن أساليب اكتشاف هوية شخص ما على الإنترنت، من خلال منظمات لا نعرف عنها أي شيء تقريبا، أصبحت أكثر تعقيدا، سواء أردنا ذلك أم لا. وفي ظل الحملات العديدة التي تتعلق بقضايا الخصوصية مع مواقع مثل فيسبوك وجوجل، والتي تغذي المستخدمين الآن بما يعتقدون أنهم يريدون رؤيته بناءً على نشاط التصفح، فمن الواضح أن هذا موضوع يثير قلق العديد من الناس بشكل واضح.
من المؤكد أنه لا حرج في وجود مرشحات لحظر المحتوى الذي لا يهم (في نهاية المطاف، نحن نختار من نتابعه لأننا نريد قراءة آراء البعض على حساب الآخرين)، ولكن هذه المرشحات تم فرضها خارجيًا علينا. بالنسبة لنا، فإن رفع مواقع معينة إلى مرتبة أعلى على محركات البحث وعلى فيسبوك يبدو أمرًا مشكوكًا فيه. والنتيجة، وفقًا لباريسر (على افتراض، ربما على حق، أن الإنترنت سيهيمن على الطريقة التي نستقبل بها الأخبار والمعلومات حول العالم، على الأشكال الأكثر تقليدية)، هي أن لدينا فهمًا مختلفًا للعالم يعتمد على بحثنا.
يقول بارسير ،(لقد اعتدنا على التفكير في الإنترنت وكأنها مكتبة ضخمة، ولكن هذا لم يعد هو الحال حقا. يتم الآن تخصيص المواقع استنادًا إلى سجل الويب الخاص بك، حيث تقوم بتصفية المعلومات لتظهر لك الأشياء التي تعتقد أنك تريد رؤيتها. يمكن أن يكون ذلك مختلفًا تمامًا عما يراه الآخرون أو عما نحتاج إلى رؤيته. فقاعة التصفية الخاصة بك هي هذا الكون الشخصي الفريد من المعلومات الذي تم إنشاؤه خصيصًا لك من خلال هذه المجموعة من المرشحات المخصصة. إنه غير مرئي وأصبح من الصعب الهروب منه أكثر فأكثر).
لقد لخص مارك زوكربيرج القيم التي تتعامل على اساسها خوارزميات حراسة البوابات عندما قال إن السنجاب الذي يموت في الفناء الأمامي لمنزلك قد يكون أكثر صلة باهتماماتك الآن من الأشخاص الذين يموتون في أفريقيا.
لم تعد قيم كونفوشيوس في محاربة الشرور والمتمثلة بحكمة القرود الثلاثة تنطبق مع حكمة القرد الرابع التي فرضته آلهة التكنولوجيا الرقمية بخوارزمياتها فهي تحمل في أولوياتها ما ذكره باريسر:
(إن الإنترنت الجديد لا يعرف أنك كلب فحسب، بل إنه يعرف سلالتك ويريد أن يبيع لك وعاء من الأطعمة الممتازة).