‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬قرأت‭ ‬عن‭ ‬مبدعين‭ ‬غادروا‭ ‬أرض‭ ‬الوطن،‭ ‬وألقوا‭ ‬عصا‭ ‬الترحال‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬المهجر‭. ‬وأخذوا‭ ‬ينعمون‭ ‬هناك‭ ‬بحياة‭ ‬جميلة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬المشاكل،‭ ‬والأزمات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬لديهم‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الديار،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انضموا‭ ‬إلى‭ ‬ملايين‭ ‬المغادرين‭ ‬الذي‭ ‬استقروا‭ ‬فيها‭ ‬بشكل‭ ‬نهائي‭.  

‭ ‬وبمرور‭ ‬الوقت‭ ‬استسلم‭ ‬هؤلاء‭ ‬للدعة،‭ ‬حتى‭ ‬نسيهم‭ ‬الناس،‭ ‬وتلاشى‭ ‬ذكرهم‭ ‬تقريباً‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬لبعدهم‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬لأنهم‭ ‬انشغلوا‭ ‬بحياتهم‭ ‬الجديدة،‭ ‬وقطعوا‭ ‬الصلة‭ ‬بالوسط‭ ‬الذي‭ ‬خرجوا‭ ‬منه‭. ‬مع‭ ‬أن‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الحديثة‭ ‬منحتهم‭ ‬فرصة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحلم‭ ‬بها‭ ‬أقرانهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭.  

‭ ‬وبين‭ ‬هؤلاء‭ ‬أدباء‭ ‬وشعراء‭ ‬وفنانون‭ ‬كبار،‭ ‬كانوا‭ ‬يمتلكون‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬حضوراً‭ ‬مؤثراً‭. ‬ولديهم‭ ‬جمهور‭ ‬عريض‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬يتخلوا‭ ‬عن‭ ‬اهتماماتهم‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬هاجر‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ ‬محضة،‭ ‬وكانوا‭ ‬يواجهون‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬تهديدات‭ ‬أمنية،‭ ‬أو‭ ‬أوضاعاً‭ ‬محرجة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬تعرض‭ ‬زملاء‭ ‬لهم‭ ‬للاضطهاد‭ ‬أو‭ ‬التصفية،‭ ‬فإن‭ ‬الانزواء‭ ‬أو‭ ‬الصمت‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬المهجر،‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬يبرره‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬البيئة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬وفرت‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬يحتاجونه‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬الراحة‭ ‬والأمان‭ ‬ورغد‭ ‬العيش،‭ ‬يفترض‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حافزاً‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬النوعي‭ ‬الغزير،‭ ‬لا‭ ‬الصمت‭ ‬المطبق‭!  

‭ ‬وأعرف‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬العراقيين،‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالشهرة‭ ‬أيام‭ ‬زمان،‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬كالأردن‭ ‬ومصر‭ ‬والإمارات،‭ ‬لكنه‭ ‬انزوى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭. ‬وكنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أنهم‭ ‬ربما‭ ‬كانوا‭ ‬راغبين‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬عملهم،‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬عربي‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الهم‭ ‬السياسي‭ ‬قد‭ ‬تغير،‭ ‬والموقع‭ ‬الوظيفي‭ ‬ولى،‭ ‬فإن‭ ‬الحياة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تحدها‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المسميات‭. ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬مرور‭ ‬السنين‭ ‬يدفع‭ ‬بالمرء‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬بمسيرته‭ ‬السابقة،‭ ‬ومراجعة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعتنقه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬قادة‭ ‬أحزاب‭ ‬وحركات‭ ‬مهمة،‭ ‬اعتذروا‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬ايامهم‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬النخبة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تعديل‭ ‬مسارها‭ ‬متى‭ ‬اكتشفت‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬خلل‭. ‬ومواصلة‭ ‬إنتاجها‭ ‬بنفس‭ ‬جديد‭ ‬متكيف‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭. ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬تتوارى‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭ ‬،‭ ‬بسبب‭ ‬الإحباط‭ ‬أو‭ ‬الخذلان‭.  

‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الأغراض‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنون‭ ‬بأنواعها،‭ ‬تحتاج‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬راعٍ،‭ ‬يؤمن‭ ‬لها‭ ‬الأهمية‭ ‬والقوة‭. ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬مبدعي‭ ‬العالم‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬معارضي‭ ‬السلطة‭. ‬والعديد‭ ‬منهم‭ ‬ذاق‭ ‬مرارة‭ ‬السجن‭ ‬والتشريد‭. ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬لأن‭ ‬يلازم‭ ‬المرء‭ ‬وطنه‭ ‬الأم،‭ ‬ويتنعم‭ ‬بما‭ ‬يوفره‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مكانة،‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬العطاء‭. ‬وليست‭ ‬السياسة‭ ‬وحدها‭ ‬هي‭ ‬موضع‭ ‬اهتمام‭ ‬النخبة‭. ‬أو‭ ‬الحافز‭ ‬الأكبر‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭.  

‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬سر‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬وأرضه‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬عليها،‭ ‬ومجتمعه‭ ‬الذي‭ ‬تربى‭ ‬فيه‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬صلة‭ ‬روحية،‭ ‬تدفع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الجاد‭ ‬المؤثر‭. ‬وتمنع‭ ‬عنه‭ ‬أي‭ ‬انكفاء‭ ‬أو‭ ‬شعور‭ ‬باليأس‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يفتقده‭ ‬أولئك‭ ‬المهاجرون‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬نائية‭ ‬قصية‭. ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬يستمعون‭ ‬للنصيحة،‭ ‬ويصغون‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬العقل،‭ ‬لما‭ ‬رضوا‭ ‬بإقامتهم‭ ‬هناك‭. ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬تتعرض‭ ‬الأسماء‭ ‬الكبيرة،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الوجه‭ ‬الثقافي‭ ‬للبلاد،‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬المفجع،‭ ‬والنهاية‭ ‬الحزينة‭. ‬ولست‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬خيار‭ ‬شخصي،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬يبدو‭ ‬كذلك‭. ‬فما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬البشرية‭ ‬هو‭ ‬النتاج‭ ‬العقلي،‭ ‬وما‭ ‬سواه‭ ‬توارى‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *