مرّة كتب الفنان والناقد التشكيلي شوكت الربيعي الذي غادر عالمنا في اليوم الثاني من العام الجديد  في أربيل «لم أخترع أوهامي.. بل حملت على كتفي ذاك المبدع الذي اجتاز أبعد مدى في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، فنقش الفن والفكر والعلم تأريخاً مدوّناً على لوح الطين بإشارات ورموز سحرية. ووضعت لأفكارنا أشكالاً مسمارية ثم صوراً تعبيرية: مبادئ تتحدث عن معنى الحرية.. وبذلك كنت آخر سومري يصنع له ذاكرة  من الطين».

لقد اختصر بهذا المقطع الكثير، فالربيعي يعدّ من أبرز التشكيليين العراقيين الذين ينتمون لجيل الستينيات، يحسب له أنه أسّس جماعة فنية في مدينته العمارة عام 1964م باسم(الجنوب) وأقام أوّل معرض شخصي فيها، وتوالت معارضه التشكيلية، التي أقامها داخل وخارجه، وتبوّأ موقع رئيس جمعية التشكيليين العراقيين – فرع البصرة 1970-1973، وتميزت أعماله باستثماره الموروثات الشعبية العالقة في ذاكرة الطفولة كونه عاش سنوات طويلة في مدينته(العمارة) الواقعة في جنوب العراق، وتشبّع فيها وقام بتحويلها إلى رموز ناطقة بالجمال من خلال توزيع الألوان والخطوط والوجوه، ولم يكتفِ بالرسم، فقد كتب في النقد التشكيلي وأرّخ للحركة التشكيلية العربية المعاصرة، وعمل في الصحافة الثقافية، ففي عام 1975 عمل سكرتير تحرير مجلة (الرواق) المتخصصة في الفن التشكيلي حتى عام 1985م، كما عمل سكرتير تحرير جريدة  ( الفنان اليوم) التي صدرت عام 1976م، ومستشارا في مجلة آفاق عربية، كما أعدّ وقدّم برامج إذاعية وتلفزيونية متخصصة في الفنون التشكيلية، وقام بالإشراف وتحرير صفحات الفنون التشكيلية في ملحق(شرفات) الذي كانت تصدره جريدة( عُمان)، وواصل العمل فيها خلال  الأعوام 2003 -2006م إلى جانب تحريره صفحة(آفاق) التي كانت تصدر بواقع ثلاث أيام في الأسبوع حتّى توقفها عام 2004م . وخلال اقامته الطويلة في مسقط شارك في مؤتمرات ولقاءات ثقافية وندوات ولجان تحكيم في معارض أقامتها الجمعية العمانية للفنون التشكيلية، وقبل ذلك واكب الحركة التشكيلية الخليجية ونشر عدة كتب، بدءا من كتابه ( الفن التشكيلي في الخليج العربي)، الصادر عام 1981م،  تبعه بسلسلة كتب عن الفن التشكيلي المعاصر في الكويت والبحرين وقطر والإمارات، والمملكة العربية السعودية وعُمان التي كانت لها حصّة الأسد في كتاباته، فقد ووثق للحركة التشكيلية العمانية، وكان قريبا من التشكيليين العمانيين، فعقد معهم صداقات ظل بعضها مستمرا حتى مغادرته مسقط، ودوّن ذلك في سيرته التي وضعها في ثلاثة كتب جمعها في كتاب حمل عنوان  «الأمل» وهذه الكتب هي : «أحزان القصب «و»طائر الشوف الأصفر» و» يوميات مدهشة «وكثيرا ما أكّد أنه بدأ بمسودة (كتاب الأمل) في الرابع عشر من «مارس» عام 1958 وانتهى منه في الخامس عشر من أغسطس» 1999 م وثبّت الأماكن التي كتب بها أجزاء الكتاب الذي يتألف من800 صفحة من القطع الكبير، ويضمُّ عشرين فصلا، ولم يقتصر الكتاب على الفنون التشكيلية بل تعدّى ذلك إلى القصة القصيرة والرواية والشعر وسلّط الضوء فيه على مراحل تطوّر تلك المجالات الإبداعية، وذكر أحداثا سياسية واجتماعية وثقافية عايشها وأسماء أسهمت في الحركة الثقافيّة والفنية، وكان يهتمّ كثيرا بالتوثيق، وأذكر أنني زرت في عام 1984 معرضا تشكيليا له استضافته قاعة الرواق ببغداد، ولم يكن في ذلك اليوم حاضرا، فضاعت عليّ فرصة لقائه التي لم تمنعني من تدوين انطباعي عن زيارتي للمعرض في سجلّ الزيارات، وفي عام 1992 وكنت أعمل محررا فنيا وثقافيا في جريدة الجمهورية، زارنا في الجريدة، فوقفت مرحبا بهذا الفنان الكبير، ذي القامة المديدة، والشَعْر الرمادي الطويل، والوجه الودود الذي تغطيه ابتسامة رقيقة، تدخل القلب بلا استئذان،  فعبّر لي عن سعادته بلقائنا، وأسفه لعدم وجوده يوم زيارتي معرضه، فقد قرأ كلمتي المدوّنة في سجلّ الزيارات، وكنت قد نسيتها في زحمة الحياة والعمل الصحفي، وحين شعر بذلك فرش دفترا كان يحمله معه وقال «هذه كلمتك»، وكانت مكتوبة بحروف مرتبكة، فعرفت يومها أنه يهتمُّ بكل صغيرة وكبيرة تمرُّ بحياته، ويوثّق، ويدوّن ملاحظات، ويهتم بالأحداث وتواريخها، والأماكن، وهذا ما نجده في كتابه (الأمل)، وتعزّزت صداقتي به في صنعاء عندما وصل إليها قادما من ميلانو الإيطالية حيث كان يقيم عام 1995م،  لإلقاء محاضرات في فلسفة الجمال على طلبة كلية الإعلام بجامعة صنعاء، وكنت أزوره باستمرار في محل اقامته بدار الضيافة في السكن الجامعي، حيث نمضي الوقت بالحديث في مجالات الثقافة المختلفة، وتوثّقت علاقتنا أكثر في مسقط، وكنا نلتقي باستمرار في المناسبات الثقافية، والاجتماعية، وكان يرافقنا على الدوام ابن مدينته، وصديقه القديم د. صبيح كلش، حتى انتقاله إلى تركيا، وقطع تواصله مع الحركة الثقافية، بعد أن مرّت به أحداث مؤلمة أبرزها وفاة ابنته الكبرى، وتدهور صحّته، وبقي فيها، حتى غادرنا السومري إلى مثواه الأخير في أربيل، تاركا ألوانه وخطوطه وكلماته محفورة في ذاكرة الثقافة العربية.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *