المرّة الأولى التي كابدت فيها الموت كانت قي صورة أمّي، وكنت حينذاك طفلا. كانت تتهيّأ للذهاب إلى مأتم خالي الذي مات صبيّا بالداء الخبيث. كأنما شقّت صرختها سقف بيتنا، وهي تمسك بسماعة الهاتف، وتتلقّى النبأ. صار كلّ الهدوء في البيت معكوسا. دقائق، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه، عندما ارتدت أمي ثوبها الأسود الفضفاض والواسع – الهاشميّ – ووقفت ترى نفسها في مرآة الكومديمو نفسه الذي يحمل الهاتف. لقد غاص حوت الموت في أعماق بحر ثوب أمي، واختفى. كما أن اللون الأسود في ثياب المرأة ليس حداديّا، ولا مأتميّا، بالمرّة. فهو يحمل في لجّته العميقة لمعة شعلة خضراء، وعلى هذه الشعلة تراهن الحياة، وأمّها المرأة.
يقول الشاعر علي الشرقي:
جسدي قاربٌ وقلبي شراعٌ
وحياتي حبلٌ وعقلي نوتيّ
أركبوني يوم الولادة بحراً
سأرى ساحلاً له يوم موتي
لا يمكن أن ينتهي كلّ شيء بموتنا إذن، ترتفع الروح لحظتئذ مثل رائحة الأعشاب وحفيف الأغصان في حديقة؛ النبتة الطيّبة يكون لها شذىً طيّبا، حتما. اللقاء الأخير مع السيّدة “مائدة” زوجة أخي، وأختي، كان بالفعل دراميّا، ومؤثّرا؛ انحنتْ إلي من عليائها، وكنت جالسا على مكتبي في العيادة، وقبّلتني.
أكثر الشعراء واجه الموت هو محمود درويش، وكابده، وكان يزوره حتى في المنام. كان يريد تأجيل اللقاء، من أجل أن ينتهي من بعض الشعر، وبعض أمور الحياة المؤجلة:
ويا مَوتُ انتظِر يا مَوتُ
حتى أستعيدَ صفاءَ ذهني في الربيع وصِحّتي
لتكون صيّاداً شريفاً
لا يصيد الظبيَ قربَ النَبع
ولتكُنِ العلاقة بيننا ودّيةً وصريحة
يصادف اليوم ذكرى أربعينيّة الراحلة، وكان السيّد الموت مستعجلا في خطفها من بيننا. هل نقول وداعا لها؟ أبدا، فهذا الفِعل لا يصحّ أبدا مع أولئك الذين نودّهم، ونتعلّم من خبرتهم في الحياة، ونجلّهم…