محمد الكلابي
في الأزمنة التي تتقاطع فيها الحقيقة مع الزيف، يصبح الصمت خيانة، والكلمة موقفًا إما أن تضيء العدل أو تسلمه للعدم. في معمعة الضجيج المصطنع حول “فضيحة ابتزاز الضباط”، يطفو اسم اللواء سعد معن كقنديل يُراد له أن يُطفأ عمدًا، ضمن مسرحية هزيلة حبكت خيوطها أيادٍ خبيرة من داخل رئاسة الوزراء، حيث تتلاقى نزوات السيطرة مع حنق العاجزين.
أكتب هذه الكلمات لا عن معرفة شخصية باللواء سعد معن، ولا صداقة ولا مصلحة، بل عن متابعة دقيقة لنشاطاته ومواقفه وسيرته العملية التي لطالما عكست وجهاً نادراً للنزاهة في زمنٍ صارت فيه النزاهة تُحسب على أصحابها لا لهم. أنا مجرد قارئ متتبع، لا أسير في ركب أحد، ولا أقبل أن تمر المؤامرات تحت أجنحة الصمت.
سعد معن، الذي كان ولا يزال عنوانًا للنزاهة والانضباط والرصانة، يُحشر قسرًا في دائرة اتهام لا يشبهها، بل يفضح من خطط لها قبل أن يفضح المتهم بها. كيف لرجلٍ تمرس في ساحات الأمن والكلمة الصادقة أن يهبط فجأة إلى درك الابتزاز الرخيص؟ هذا الادعاء، في حقيقته، إسقاط معكوس لنقاء الرجل على عجزهم عن مجاراته.
يقول مثل قديم: “حين تعجز عن تحطيم الحقيقة، ابدأ بتشويه حاملها”. وهذا بالضبط ما جرى؛ إذ اختلطت الرغبات المنكفئة لدى بعض أصحاب القرار بالذعر من صعود الرموز المستقلة، فكانت النتيجة مؤامرة معيبة، أقيمت أركانها على أكاذيب مفضوحة ونوايا مشوهة.
التأمل في تفاصيل ما حدث يكشف لمن شاء أن يرى أن المستهدف لم يكن شخص سعد معن فحسب، بل كل قيمة للاستقامة داخل المنظومة، كأن المطلوب هو بسط طريق معتم لكل عابر بلا ولاء مشروط. وإلا، فكيف يفسر العقل أن يُحال رجل مثل سعد معن إلى الآمرة، وهو الذي كان عينه على الوطن لا على موائد النفوذ؟
لم تكن الحملة لتأخذ هذا الطابع المتسارع لولا أنها استندت إلى دعم خفي من بعض دوائر القرار، حيث اختلطت طموحات مثقوبة بحسابات ثأر شخصي. لقد أرادوا إخراس صوت الصدق لأن نشازه يفضح لحن الزيف.
ويا لسخرية المشهد: كيف لمن غاصوا حتى الأعناق في وحل الصفقات، أن ينصبوا أنفسهم قضاةً على شرف الرجال؟ كيف لمن لوثوا مناصبهم بالخيانة أن يشهروا سيف الطهارة على أعناق الشرفاء؟ إنهم بذلك لا يطعنون سعد معن فقط، بل يطعنون آخر ما تبقى من هيبة الدولة.
وفي الختام، تبقى الحقيقة عصية على الانكسار. فكما أن الشمس لا تطلب شهادة بضيائها، كذلك لا يحتاج النقاء إلى محكمة تثبت بياضه. وستبقى الأيام حبلى بانكشاف الحقيقة، لأن من طبائع الزيف أنه لا يعيش طويلاً، ومن سنن النقاء أنه وإن أُثقل بالطين، فلا بد أن يغسل وجهه بالنور. وفي النهاية، ستنكسر السهام فوق رؤوس رماة الغدر، وسيُكتب في هوامش التاريخ أن بعض الخيانات كانت أشد قبحاً من ألف هزيمة عسكرية.