لعل ما يُميز «وجودنا العراقي» هو ازدواجيته، ازدواجيته لا بمعنى تناقضه في الموقف الواحد وفي الظروف ذاتها، وإنما ازدواجيته بمعنى: اختلاف الكلام عن الواقع كما هو. ولأكن صريحاً معك قارئي العزيز، فإنه ليس بالأمر الهين تمييز ازدواجية «الوجود العراقي» دون النظر إلى حراك المجتمع العراقي من منطقتين، الأولى من داخله، والثانية من خارجه. فلكي يفهم الباحث ما نريده، عليه أن يتعايش مع العراقيين ما استطاع في السوق والشارع والمحال التجارية ومراكز الشرطة والمستشفيات والصالات الرياضية والمقاهي الشعبية وكل مكان يمارس فيه عوام العراقيين حياتهم الطبيعية دون تزويق ولا تصنع. وعليه أن ينظر إلى هذا الحراك من خلال المبادئ النظرية في الكتب المهتمة بالاجتماع الإنساني والنفس البشرية.
من ينظر إلى الحراك الاجتماعي العراقي من هاتين المنطقتين، يلاحظ أن العراقيين يعيشون في الكلام؛ وهم بعيدون جداً جداً عن الواقع. إنهم يعيشون في الكلام لا في الحياة، والدماغ لا يعينهم إلا على ممارسة الوظائف البيولوجية الفطرية وبعض الممارسات المرتبطة بها فيما يتعلق بطلب الرزق وتجنب بعض الأذى. أدمغتهم لا تتحس معاني الحياة التي تغيرت وتطورت بتقدم الإنسان حضارياً. فالعدل عندهم قصاص، والمساواة عندهم قلة احترام، والحرية عندهم انحلال، التواضع عندهم ضعف، والتعامل الشفاف عندهم مرادف لعدم الثقة، إلخ…
إنهم يعيشون في الكلام وحسب، وقد ساهم في هذه الظاهرة بل وشارك ويشارك في إنتاجها أغلب صُناع الثقافة، وأسباب مشاركة هؤلاء في إنتاج هذه الظاهرة وتدويرها إلى ما لا نهاية وفي كل شيء يرجع لأسباب عديدة، أهمها: أنهم ألفوا هذه الظاهرة في المجتمع، وأن أغلبهم منتفع مادياً-روحياً من وجودها.
ما معنى أن يتغنى البعض بدجلة والفرات، ولا أحد منهم بكى حال هذين النهرين لتراكم مختلف القذارات فيهما؟ (منظر حواف نهر دجلة الآسنة؛ لم يحفز أحد ليندب حظ هذا النهر على ما ابتلي به من تلوث وقذارة). وما معنى تغني الواحد من هؤلاء ببقعة جغرافية ما، وتصويره لها وكأنها قرية سويسرية أو مدينة أنيقة كلندن أو امستردام، وهي في الواقع وفي عين الزائر خرابة لا تصلح للعيش البشري؟ (وفي أحسن الأحوال، هي مجرد مكان عادي). لماذا واحدهم يمط شفتيه؛ عندما يتحدث عن عظمة وجبروت العراق، والعراق بواقعه من البلدان السباقة في مجالات التخلف!ينظر العراقيون إلى العراق بعيون متأثرة بأفلام الأكشن السينمائية، ينظرون إلى العراق وكأنه مُقاتل تعرض لبعض الهزائم في حلبات النزال لظروف خارجة عن إرادته بعد أن تكالب الجميع ضده، وهو اليوم في طور التكوين البدني للنزول مرة أخرى للحلبة والانتصار على خصومه وكل إنسان شرير شارك في هزائمه بطرق ملتوية!.