تشهد الساحة السياسية الأمريكية اليوم انقسامات حادة، حيث يظهر تياران رئيسيان يعكسان تضارب المصالح بين إرادة الشعب وتوجهات “الدولة العميقة”. يتجلى هذا الصراع بشكل واضح في الانتخابات الأمريكية المقبلة، إذ يُعبر جزء واسع من الشعب عن رغبته في إعادة انتخاب دونالد ترمب. بالنسبة للعديد من الأمريكيين، يمثل ترمب شخصية سياسية ترفض التورط في الحروب الخارجية، مما يعزز موقفه لدى المواطنين الذين يعانون من تداعيات تلك الصراعات الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، تقف “الدولة العميقة” في صف كمالا هاريس، حيث يُنظر إليها كمرشح قادر على تحقيق مصالح قوى النفوذ في واشنطن، تلك القوى التي ترى في الحروب الخارجية وسيلة للحفاظ على هيمنتها السياسية ومصالحها الاقتصادية.
إذا ما تمكنت “الدولة العميقة” من إبعاد ترمب عن الفوز في الانتخابات، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصاعد موجات الغضب الشعبي، وربما يشعل اضطرابات واسعة قد تتطور إلى حد المواجهات الأهلية. يزداد هذا السيناريو تعقيداً في ظل ازدياد حالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة، ما يجعل احتمال العنف الداخلي أقرب للواقع إذا شعر مؤيدو ترمب بأن نتائج الانتخابات جاءت نتيجة تدخلات أو تلاعبات من جانب “الدولة العميقة”. وفي هذه الحالة، فإن خيار التوجه إلى حرب خارجية قد يصبح وسيلة “الدولة العميقة” للسيطرة على الأوضاع الداخلية، حيث يساهم الانشغال بحرب خارجية في إعادة توجيه اهتمام الرأي العام وتقليل حدة التوترات الداخلية.
تتمثل الخيارات المتاحة أمام “الدولة العميقة” في إشعال نزاع عسكري موسع في أوكرانيا أو الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران. وقد يتجه المخططون نحو تفعيل كلا الخيارين؛ من خلال التصعيد ضد روسيا في أوكرانيا وفتح جبهة جديدة ضد إيران في منطقة الخليج. تعكس هذه الخيارات أهمية الحروب للولايات المتحدة، حيث تعد وسيلة لتحقيق استقرار اقتصادي وسياسي مؤقت، وذلك من خلال تحفيز الصناعات العسكرية وزيادة الإنفاق الحكومي، ما يعزز من أرباح “الدولة العميقة” ويدعم شبكات المصالح الاقتصادية المرتبطة بها. فالأزمات والصراعات ليست مجرد مسارات دبلوماسية أو استراتيجية للولايات المتحدة، بل تعتبر ضرورة لاستمرار استدامة نظام اقتصادي قائم على الحروب كمصدر للربح والنفوذ.
إن فوز ترمب في الانتخابات يعني، من منظور الكثيرين، توقف الحروب الأمريكية. فالرئيس السابق قد أظهر، خلال فترته الرئاسية، معارضة واضحة للتدخلات العسكرية غير الضرورية، الأمر الذي جعله في موقع التصادم مع “الدولة العميقة”. إن توقف الحروب قد يمثل خسارة كبرى لتلك الكيانات التي تعتاش من الحروب وتستفيد منها على الصعيد الاقتصادي والسياسي. هذا التعارض بين توجهات ترمب ومعسكر الدولة العميقة يُفسر أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع الأخيرة لإبعاده عن السلطة. فترمب يمثل تهديداً مباشراً لمصالح القوى المتربعة على عرش الاقتصاد العسكري والنفوذ الأمني في الولايات المتحدة، التي ترى أن تواجدها مرهون بالقدرة على إبقاء نار الحروب مشتعلة.
وفي حال حدوث “معجزة” فوز ترمب برغم المعارضة الشرسة من “الدولة العميقة”، فإنه من الممكن أن تستبق تلك القوى تولي ترمب للرئاسة من خلال إشعال الأزمات الدولية بشكل متسارع. فقد يُفتعل التصعيد في أوكرانيا، وتُثار التوترات مع إيران أو في منطقة الخليج قبل وصول ترمب إلى البيت الأبيض، وبذلك يجد ترمب نفسه مضطراً إلى التعامل مع أزمات قائمة لا يمكنه إنهاؤها بسهولة. وبهذا السيناريو، تستطيع “الدولة العميقة” ضمان استمرار الأوضاع التي تحقق لها الأرباح، إذ يبقى دور ترمب محصوراً في إدارة تلك الحروب، دون أن يتمكن من إيقافها أو تغيير مسارها.
بناءً على ذلك، فإن مسار الأمور يشير إلى أن الولايات المتحدة قد تكون على أعتاب حروب أمريكية واسعة النطاق، سواء في حال فوز ترمب أو هزيمته.