التاريخ ليس مجرد قائمة ملوك ومعارك، بل هو اختبار مستمر لسؤال جوهري: من الذي يصنع الحضارة، الدولة أم المجتمع؟ في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، كانت السلطة الإسلامية مفككة، تتنازعها ثلاث قوى كبرى، لكنها رغم ذلك لم تكن مركز الحياة. كان المجتمع أقوى من الدولة، وكان الإنسان حرًا في أن يفكر، ويسافر، ويتاجر، ويبني، دون أن يكون عليه أن يستأذن سلطةً تتوهم أنها تملك المستقبل.
في ذلك الزمن، لم يكن الحكم غاية، بل وسيلة لتنظيم الحد الأدنى من الفوضى، وكانت الحضارة تنمو في الفراغ الذي تتركه السلطة، لا تحت قبضتها. المساجد لم تكن مجرد أماكن للصلاة، بل كانت جامعات حقيقية، حيث يجلس العلماء لا لخدمة الأجندات السياسية، بل لصياغة الفكر بحرية. لم تكن الأسواق مجرد نقاط بيع وشراء، بل كانت شبكات معرفية، حيث تُنقل الأفكار كما تُنقل البضائع، وحيث تكتب العقود على ورقة، لكنها تُبرم بكلمة، لأن الثقة كانت أقوى من القوانين.
لكن الدولة الحديثة لم تفهم هذا الدرس، فأرادت أن تكون كل شيء: العقل الذي يُفكر، واليد التي تُنتج، واللسان الذي يتحدث. لم تعد الدولة منظّمًا، بل تحولت إلى سجانٍ يحتكر الحقيقة، ويمنح الحرية بقدر ما تخدم استمراره. أصبحت الدولة الحديثة مثل إله قديم، يريد أن يُعبد لا أن يُسائل، وأن يُخاف لا أن يُحترم. حين تسيطر الدولة على الفكر، فإنها تخلق أجيالًا تعرف كيف تُطيع، لكنها لا تعرف كيف تُبدع.
الاقتصاد لم يعد ساحة للمغامرة، بل صار متاهة بيروقراطية، حيث التاجر ليس حُرًا في أن يُغامر، بل هو أسير تصاريح وختم موظف خلف مكتب بارد. الدولة التي تفرض يدها على السوق تُحوّل الإبداع إلى بيروقراطية، والطموح إلى انتظار، والنجاح إلى استثناء نادر. لا تزدهر الأسواق عندما تتحكم بها السلطة، بل عندما تكون أقوى من تدخلاتها، عندما يكون القانون هو الثقة، وليس القرارات الوزارية المتغيرة بتغير الحكام.
أما الهوية، فقد أصبحت في قبضة الأنظمة، تُصاغ في خطب السياسيين، لا في قلوب الناس. لم يعد الانتماء فعلًا طوعيًا، بل أصبح مشروعًا سياسيًا، حيث يُطلب من المواطن أن يكون كما تريد السلطة، لا كما يريد هو أن يكون. الدولة الحديثة تتصرف وكأنها صاحبة التاريخ، لكن التاريخ ليس وثيقة رسمية، بل قصة تُكتب في الأزقة، وفي الكتب، وفي العقول التي ترفض أن تكون نسخًا مكررة.
لماذا كل هذا؟ لأن الدولة التي تخاف الحرية، تخاف الحياة ذاتها. الأنظمة التي تبني نفسها على السيطرة، تعتقد أن الفوضى هي العدو، لكنها لا تفهم أن الحضارات العظيمة لم تُبنَ بالنظام وحده، بل بالأسئلة، بالتمرد، بالمخاطرة، وبالقدرة على أن يكون الإنسان أكبر من السلطة التي تحكمه. المجتمعات الحية لا تحتاج إلى دولة تقول لها كيف تفكر، بل تحتاج إلى فضاءٍ يسمح لها بأن تفكر دون خوف.
إذا كانت الحضارة تعتمد على الدولة، فإنها تختنق معها. لكن إن كانت الحضارة تعتمد على المجتمع، فإنها تظل باقية، حتى لو سقطت العروش، وانهارت الجيوش، وتغيرت الخرائط. الحضارات العظيمة لم تكن تنتظر إذنًا كي تزدهر، ولم تكن تخشى أن تكون أكبر من حكامها. السؤال اليوم ليس كيف نقوّي الدولة، بل كيف نستعيد المجتمع؟ كيف نجعل الحرية أعمق من السياسة، والفكر أقوى من السلطة، والهوية أوسع من حدود الجغرافيا؟
الدولة ليست الحضارة، بل مجرد ظلٍ لها. وعندما يصبح الظل أكبر من الأصل، فإن كل شيء يختل.