في يوم من الأيام كانت الآنسة المليحة مي زيادة القادمة إلى بلاد الكنانة من بلاد الشام أجمل حكاية غرام عرفتها قصص الرومانسية العربية منذ عصر قيس وليلى، وجميل وبثينة في بني عذرة. حين كان الشعر حصاناً جميل الصهيل والعشق يتسكّع على جبل التوباد. ثم أصبح العشق والشعر يتسكعان معاً في الصالونات الأدبية كل يوم ثلاثاء على ضفاف النيل.
وقصة هذه الأديبة الفلسطينية اللبنانية المصرية المشتركة، التي دوَّخت الرجال في عزِّ شبابها، قصة دراماتيكية فيها كثير من الظلم والإجحاف، وقليل من العدل والإنصاف.
وحياة “مَيْ” أهم ألف مرة من نتاجها الأدبي. وحكايتها ميلو دراما عجيبة غريبة تحولت مع الزمن إلى اسطورة إنسانية معذبة. حين تخلَّى عنها الأصدقاء، وخذلها العشاق، وخانها الأقرباء. فوجدت نفسها ذات ليلة تكتب يومياتها الحزينة من العزلة في مستشفى العصفورية للأمراض العقلية.
ولقد مرَّ زمن كانت “مَيْ” أو “ماري إلياس زيادة” حلم ثلاثة أرباع أدباء عصرها. يخطب ودَّها عباس محمود العقاد، ويطرب لصوتها طه حسين، ويهيم لرقتها لطفي السيد، ويتغزَّل بأنوثتها أحمد شوقي، ويزيد في الغزل حافظ ابراهيم، ويحلم بالقرب منها خليل مطران، وينتظرها تحت النافذة مثل أيِّ مراهق مصطفى عبد الرازق.
وكلهم كانوا عشاقاً يكتبون لها على غيمة من العطر أشعاراً عاطفية ورسائل غرامية. ويتصرفون معها مثل الصبيان في الحارات. يهمسون لها بالكلمات، ويغمزونها بالتلميحات، ويتمنّون منها نظرة، وينتظرون انعقاد صالونها الأدبي كل اسبوع قبل موعده بساعات.
لكنَّ قلب الآنسة كان مشغولاً بحب قديم بعيد، يقيم خلف المحيط في نيويورك: جبران خليل جبران. والمفارقة أن مي كانت تحب جبران ولا يحبها. بينما هؤلاء المساكين من الأدباء كانوا يحبونها وهي لا تحبهم. وكان مصطفى صادق الرافعي أغرب العشاق المتباكين على الحب الضائع والود المفقود. صال وجال حتى قال:
يا مَنْ على الحبِّ ينسانا ونذكرُهُ
لسـوفَ تذكـرنا يـومــاً وننساكـا
إنَّ الظـلامَ الذي يَجـلوكَ يا قمرٌ
له صبـاحٌ متـى تدركُـهُ أخفاكـــا
وكانت كل غراميات الرافعي التي كتبها في “السحاب الأحمر”، و”رسائل الورد”، و”رسائل الأحزان” أوهاماً ليس لها واقع. وبعض العشاق يتوهمون. وبعضهم يُغالون في الوهم، ويفترون، ويكذبون على الحبيبات حين يخترعون قصصاً من خيالهم.
وحدث بالفعل أن استتنكرت مي رسائل الرافعي وغضبت من تلميحاته. وقالت إن هذا الرجل يزوِّر الوقائع. فلا هي أحبَّته، ولا عشقته، ولا اقتربت من خياله، ولا تعاطفت مع مشاعره، ولا وعدته بمساحة في قلبها، ولا فكرت يوماً أن تسير في طريقه.
وكان عذر الرافعي أنه ثقيل السمع، ثقيل الدم، ثقيل الإحساس أيضاً.. فلم يكن يسمع لنصائح الناس فيتوقف عن هذه الثرثرة. ولم يكن يسمع لنداء الحب إلا من طرف واحد هو طرفه!.
ماذا بقي من حكاية مي زيادة في لغة العشق والعاشقين بعد مضي كل تلك الحقب من السنين؟. من المؤكد أنها ستبقى قابلة لاسترجاع أشواق قديمة، وصبابات قديمة في مكاتيب الهوى والشعر والغرام