يُعرف شعراء الستينيات الأمريكان بارتباط شعرهم بالسياسة ،والإنغمار- ولو من بعيد ، وبمسميات مختلفة – بالهمّ الظرفي الذي فرضته ما أفرزت الستينيات من أحداث، كان من أشدها أثراً بدء حرب فيتنام، واغتيال جون كيندي ، وتردد أصداء ثورة الطلبة الفرنسيين، واتساع مداها أوربياً وعالمياً وهو أيضاً عقد استكشاف الفضاء الخارجي، والوصول إلى القمر لأول مرة.

تلك وسواها من القضايا ظلت في خلفيات ومقدمات الكتابة الشعرية في أمريكا.واتسم شعراء العقد الستيني بالتنبه للأثر المدوي للأحداث.فتمثلوها شعرياً.
لكنها لدى كثير منهم ظلت في البنى العميقة لقصائدهم.لم يمتلك بعضهم جرأة ألن غيزنبرغ مثلاً في (عواء) ،ومواجهته لقوة أمريكا المفرطة، وتهشم الجسم الإجتماعي بسبب الحرب ،والتهميش المقصود للسود، والجماعات الإجتماعية الصاعدة كالشباب والنساء والمهمشين الفقراء.
وممن تشظت تأثيرات الستينيات في وعيهم، واتخذت أساليب فنية غير مباشرة الشاعر بيلي كولينز(نيويورك-1941).حيث النسيج الخاص للكتابة التي تأخذ البسيط واليومي، وتعلو به لغةً وصوراً مؤثرة، وتعود بحصيلة تفاعلٍ وقراءة واسعة، حدتْ ببعض النقاد إلى إرجاعها لشعبيته -أو شعبويته في بعض التشخيصات- ، ومزج السخرية بالشعور الحاد بالموت، وعبثية الحياة.وافتقادها للعدل والأمل.
لم ينشر كولينز كتاباً حتى الأربعينيات من عمره.بل كان فوزه بلقب شاعر أميركا ،الذي يمنح كل عام، بداية انتشار شعره بالطريقة التي يحبذها.يقول في مقابلة له : إنه يرغب بقراءة شعره في أنفاق المترو ،وخطوط النقل والساحات، على أن يتم بحثها في مناقشة رسالة ماجستير في غرفة بالجامعة
تثير تلك الملاحظاتِ قراءةُ مجموعة أخرى من قصائد بيلي كولينز،ترجمها الشاعران العراقيان سهيل نجم ومحمد النصار.وأسمياها (يوم الوجود الوحيد) إحالة إلى عنوان إحدى قصائد كولينز الشائعة ،والمختارة في الكتاب.
ومن الجميل أن تُرفد المكتبة الشعرية العربية بنماذج من شعر العالم في تياراته المختلفة ،وأصواته غير التقليدية ،لا تلك التي دأب المترجمون
على تقديمها للقارئ العربي، بحسب شهرتها، أو تكريس أسماء شعرائها.
وكنا عرفنا كولينز أيضاً من خلال ترجمة قصائده المتناثرة في المنابر الثقافية، و كتب ،منها ترجمة الشاعر المصري أحمد الشافعي لمجموعة من اختياره أسماها (رجل القمر) ، والشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش الذي اختار وترجم مجموعة أسماها ( أوزة الشتاء تنبح في السماء). لكن كتاب سهيل ونصار يضم وثيقة مهمة مطولة ،هي لقاء مع الشاعر، أجراه محرر مجلة (باريس) الأمريكية في سنة حصول كولينز على جائزة شاعرأميركا.وسيتفرد كولينز بالفوز بها مرتين :2001 و2003. وقد منحه ذلك فرصة التفرغ للكتابة ،وأصبح بحكم الجائزة شاعر أمريكا لعامين ، ومستشاراً لمكتبة الكونغرس. هنا استطاع أن يحقق حلمه بإدخال الشعر إلى المدارس بوتائر متصلة.فألف دليلاً لأنطولوجيا شعرية بعنوان (شعر 180) ، يضم مائة وثمانين قصيدة ،تُدرَّس بعدد أيام السنة التعليمية لطلبة الثانويات.
ذلك يهبنا معرفة ما يعمل على تشغيل الشهية الشعرية لكولينز.إنها ببساطة: الحياة. أو الوجود كما يحب أن يؤكد في احاديثه.ويجسده أيضاً بالإنتباه للعامل الزمني، وبعبارة أخرى للزمن ذاته ، فاعلاً في وقائع البشر.
وذلك يشكّل ملامح الوجه الثاني لشخصية كولينز وانعكاسها في شعره.فمن حيث يريد لشعره أن يُقرأ في المترو – وقد حصل ذلك إذ وُضعت أشعاره في محطة كبرى من محطات مترو مدينة نيويورك-، يريد أيضاً أن ينعم بعزلة خاصة.يعلن لقرائه أنه لا يعرف أصدقاء من الشعراء المعاصرين له.
يشخص النقاد صوت كولينز الشعري وخطابه بأنه (شاعر أميركي)، بمعنى انهماكه في تمثل مفردات الحياة الأميريكة بثقافتها وسائدها، وما يبدو منها للعلن ، وما ينأى عن الرصد في مضمرها المخفي.
ذلك سيقوده لموازنة تلك الواقعية والعزلة، والبساطة في الموضوعات والقاموس الشعري، بالعمق المطلوب لتمثل أفكاره.حيث يغلب على اختيار موضوعاته، فعل الزمن في الأشياء والأمكنة ،والأعمار والمظاهر.والموت الذي يمثل في شعره قيمة تتصل بالوجود ،وبالزمن بالضرورة .ويسبغ عليها ملمَحيْ السخرية والحرية السوريالية في تشكيل الصور خاصة ، وتوسيعا ً للتفاصيل التي يحفل بها شعره.
لقد اختار سهيل ونصار عدداً من قصائد كولينز التي تُبرز بحق تلك المزايا التي شخَّصتها الدراسات النقدية، والتي تتحصل من قراءة نماذج من شعر كولينز.
ينتقد كولينز ما يسميه ( الحشمة والشعور باللياقة في الشعر الأمريكي).وهنا نعثر على بعض شطحات الجيل الستيني الذي يرث ذلك من جيل قريب منه هوالمعروف ب(جيل البيِتْ) ، وغضبهم الصارخ على التوافقات الإجتماعية والسياسية.ورفضهم لها. فيسمي مثلاً أحد دواوينه بعنوان مستفز( تجريد ثياب إيميلي ديكنسون ).و بحرية لا تهمه فيها مكانته الأكاديمية أستاذاً جامعياً يقول: (إن الشعراء مدرّسون يكتبون الشعر، وأنا أريد أن أكون شاعراً أستاذاً لا أستاذاً شاعراً). وبذا ينزع الموانع الخجولة، لا تلك التي تتصل ببذاءة المفردات، بل بالتوجه إلى موضوعات لا يلجها كثير من شعراء الأكاديمية الرصينة.
نعثر في قصيدة (نصيحة للكتّاب) بجانب التبسط والسخرية الشفافة، على ملامح نظرته السماوية إلى الكتابة ،ومحبة الشعر التي جعلته يطلب إشاعته في أكثر الأوساط اتساعاً في التلقي. فينصح بتعابير طريفة أن يأتي الشاعرللقصيدة (نظيفاً)، بالمعنى الجواني للكلمة لا السطحي.وكما لو أن البابا يزور معبداً، فيكون (مذبح ) الكتابة ،ومكتب الشعر نظيفاً، تنتتقل عدواه لتنظيف الغابات رمزياً،بما لايُرى منها ، ويعود بنمل الكلمات الذي يتبعه :
رتِّب المكان كما لو أن البابا على وشك الوصول
النظافة ابنة أخ الإلهام…….
سيغمرك ضوء الفجر
المذبح الطاهر لمكتبك
سطحه نظيف وسط عالم نظيف
ومن مزهرية صغيرة زرقاء
اسحب قلم رصاص أصفر
هو الأكثر تألقاً في الباقة
ودبّج الصفحات بجمل قصيرة
مثل صفوف طويلة من النمل الدؤوب
الذي يتبعك من الغابات
إن كولينز الذي يكتب قصيدة عن أرسطو، وأخرى عن بوذا ،وثالثة عن التفاحة التي في الأسطورة، سيكتب أيضاً عن الكلبة التي تخرج ببهاء (تزيح القط جانبا كل صباح/ وتأكل طعامه كله) .هكذا يقدم قصائده متجهاً لقارئ واع، هو ذاته عند الكتابة، بخياله وبساطته. وإذ لاحظ النقاد ذلك، نوّهوا بأن قصيدته أكثر جدّية مما تبدو عليه. فوراء سخريتها وبساطتها موقف جدّي من العالم .ها هو في قصيدة (مدرس التاريخ) يسلّط النقد على هشاشة العصر، وثقافته الضحلة.حيث لا يظل للأشياء إلا مسمياتها :
وأصبح العصر الحجري عصر الحصى
سمّي باسم الممرات الطويلة في ذلك الوقت

ولم تكن محاكم التفتيش الأسبانية
أكثر من إثارة أسئلة مثل:
كم تبعد المسافة من هنا إلى مدريد ؟
أو ماذا تُسمى قبعة مصارع الثيران؟
يهتم كولينز كثيراً بموقف الشاعر من القصيدة، وما يسميه (المشكلة مع الشعر) في عنوان إحدى قصائده التي يصفها بأنها (قصيدة تعليلية) ، وفيها تتأكد قناعاته التي برزت أيضاً في نصّه(مقدمة للشعر).
الشعر يملؤني بالبهجة
وانا أتعالى مثل ريشة في الريح
. الشعر يملؤني بالحزن
وأنا أغوص مثل سلسلة
تُقذف بقوة من أعالي الجسر
لكن في أغلب الأحيان
الشعر يملؤني بالدعوة القوية لقراءة الشعر
شعر كولينز تسجيل لبراءة تعمدها وضمنَّها رسالة إنسانية ، سواء قرأناه في سخرياته الهادفة ، أو في بساطته وتفاصيل يومياته وما حولها، أو تأملنا وقع الموت في شعره،أو حين يحتفي بالزمن الذي يستل منه إيماءة لانقضائه بيوم وجود وحيد ، يجد فيه نفسه وحلمه وخيالاته في وحدته الاخيرة.
إن عملَ الشاعرين سهيل نجم ومحمد النصار في الإختيار ، وتقريب عالم كولينز الشعري للكلمة العربية ،ثمينٌ ، تزيده ترجمة الحور المهم معه في الكتاب قيمةً نقدية، وإفصاحاً عن عمل الشاعر، وطريق القصيدة إلى قارئها ، وطريقها إليه بالضرورة.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *