اعتَبَر جون كوهين أن الشعر يختلف عن النثر بخصوصيات صوتية ودلالية معا وبالتالي فإن الشاعر ليحقق شعرية عالية عليه أن يستغل المستويين معا، وهو ما جعله يصف صاحب قصيدة النثر بالشاعر الناثر ويكاد يُخرج قصيدة النثر من دائرة الشعر ويصفها بأنها قصيدة دلالية تستغل المستوى الدلالي دون المستوى الإيقاعي. ولئن رأى أن الشاعر-الناثر صار في وضع يسمح له بالتصرف في مقومات المستوى الدلالي فإنه بتحرره من قيود النظم حرم القصيدة من المقوم الصوتي وأضعف شعريتها أو قلصها إلى مستواها الأدنى[i]. واللافت في مجموعة “ليس للأرض باب وسأفتحه” وفي شعر سنيا الفرجاني عامة غياب تام للقصيدة المنظومة سواء كانت نظما عموديا أو نظما حرا وقصْر الكتابة الشعرية على القصيدة النثرية. وهو ما يعني أن استغراق هذا الشكل للكتابة عندها والغياب الكلي للأشكال الشعرية الأخرى هما اختيار لنمط من الكتابة يؤسس لشعرية أخرى غير الشعرية الانزياحية التي أسس عليها كوهين نظريته الشعرية التي تعتبر النظم أو الإيقاع عامة مقوما أساسيا من مقوماتها. إن تخلي الشاعرة عن هذا المقوم عن إصرار وقصد دليل على أن كتابة الشعر في أفق القصيدة النثرية وبعيدا عن/ أو ضد القصيدة الموزونة (التي سماها كوهين القصيدة الشعرية) يكمن وراءها مشروع شعري مغاير ورافض للأنماط الشعرية المعروفة وبالتالي معارض للشعرية السائدة شعرية الانزياح في المستوى الصوتي أو النظمي خاصة.

ويمكن أن يُعترَض على هذا القول بأن قصيدة النثر ليست من ابتداع هذه الشاعرة ولا هي من أنصارها[ii]، وبالتالي فمن المبالغة أن نتحدث عن مشروع شعري مضاد للشعرية السائدة وخاصة شعرية الانزياح لمجرد كون الشاعرة لم تكتب غير القصيدة النثرية والحال أن هذه القصيدة نفسها محل جدل ورفض وإنكار، هذا إضافة إلى أن القصيدة النثرية في شعرها قد لا تكون اختيارا ومشروعا وإنما قد تكون اضطرارا وهروبا من صعوبات القصيدة الموزونة واشتراطاتها خاصة أنها لم تجربها ولم تثبت جدارتها بالخروج عليها لأن مغامرة الخروج لا تكون إلا بعد مكابدة الدخول ومعاناة التجربة. ولا شك في أن لهذه الاعتراضات بعض المشروعية لأن الشاعرة لم تمارس القصيدة الموزونة ولم تثبت اقتدارها على كتابتها، وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعلم على وجه اليقين إن كان اقتصارها على قصيدة النثر هروبا من اشتراطات القصيدة الموزونة وإكراهاتها أم اختيارا نابعا من قناعة وموقف شعريين وتحقيقا لمشروع كتابي حداثي. غير أننا مع ذلك نرجح الإمكان الثاني استنادا إلى مسوغين أساسيين: أحدهما واقع خارج القصيدة وثانيهما كامن داخلها.
أما المسوّغ الخارجي فيعود إلى ما تنبئ به تصريحات الشاعرة من رؤى ومواقف تدل على أن كتابة القصيدة النثرية كانت منذ البدء اختيارا واعيا ونابعا من رؤية خاصة للكتابة الشعرية باعتبارها فعلا إبداعيا لا يمكنه أن يرضى بأنماط جاهزة أو يتقيد بضوابط عروضية أو شكلية مسبقة. تقول عن قصيدتها: “هي قصيدة استكشافية لا تحتاج مخططا أو قالبا جاهزا… هي امتداد لتقاليد معينة ولكن تتجاوزها لدروب غير مألوفة ولمسارب شائكة […] القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة إمكانية من إمكانيات الشعر وليست الأصل […] قصيدة النثر سيرورة شعرية تفترض موهبة عالية وشعرية دقيقة وتستوجب معرفة عميقة بالموروث الثقافي والشعري والجمالي”[iii]. وتردّ على من وصف قصيدة النثر بالخرساء بأنها “ليست خرساء أبدا بقدر ما هي كتل من الأصوات والإيقاعات غير المألوفة” وأن “الشعر كائن ناطق” وتخلص إلى أن “الشعر أكبر من أقفاص التصنيف”[iv].
ويتضح من خلال هذه التصريحات وغيرها من حواراتها مع النقاد أن كتابة القصيدة النثرية اختيار شعري واع ونابع من موقف “نقدي” من الأشكال الشعرية السائدة وإصرار على ممارسة الكتابة الشعرية خارج الأطر المألوفة والقوالب الجاهزة ورفض لأبوة القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة اللتين تعتبرهما مجرد إمكانين من إمكانات القصيدة وليست لهما أصولية أو مزية أو سلطة على الشاعر المعاصر. هذا فضلا عن كون هذا الموقف ليس متأتيا من فراغ أو عجز أو قطع عبثي مع سيرورة الشعر العربي بل موقفها ناتج عن تمثل عميق لهذه السيرورة. فقصيدة النثر- من جهة- غير منبتة عن هذه السيرورة، والأنماط الشعرية الأخرى- من جهة أخرى- بدأت تستنفد إمكاناتها ومبررات وجودها.
وأما المسوّغ الداخلي فمرده إلى الطريقة المخصوصة التي شكلت بها الشاعرة قصائدها النثرية في مجموعتها “ليس للأرض باب وسأفتحه”. ذلك أن هذه القصائد لا تستجيب غالبا لمفهوم قصيدة النثر وبنيتها كما نظّر لها أصحابها شرقا وغربا وخاصة برنار سوزان حين ذهبت إلى أن قصيدة النثر وإن كانت منعتقة من قواعد الشعر ومتمردة على قوانينه فإن لها مقوماتها وقوانينها الخاصة بها أبرزها الإيجاز المكثف والوحدة المنظمة واستقلال عالمها وانغلاقه. غير أنها تجنبا للتعميم تميز بين نمطين من قصيدة النثر هما “القصيدة الصورية” أو “الدورية” الخاضعة للتنظيم الفني (تقسيمها إلى مقاطع- السيطرة على الزمن وفرض بنية عليه عن طريق الإيقاع) و”القصيدة-الإشراق” التي تقوم على “الفوضى الخلاقة” وتقطع الجسور مع أكل أشكال التنظيم الزمنية والمكانية والمنطقية[v].
وقد لاحظنا في ديوان الشاعرة غلبة القصيدة الإشراق أو الفوضى الخلاقة على القصيدة الصورية المنتظمة وهو ما يعني أن الشاعرة لم ترض في اشتغالها النصي خارج “العمودي والحر” بقصيدة النثر في شكلها الصوري المنتظم فنيا بل غلّبت النمط الأكثر تمردا ورفضا لمختلف الأنماط المقننة والمنتظمة بما فيها النمط الأول من قصيدة النثر، وربما اختارت ممارسة نمط من الكتابة لا شرقي ولا غربي لا هو شعر يمكن الاطمئنان إلى شعريته ولا هو نثر يمكن الجزم بنثريته. وإذا كان محمد بنيس يتحدث عن استراتيجيات التحديث الشعري القائمة على “طرائق أقل” فإن الاستراتيجية التي تشتغل بها قصائد سنيا الفرجاني على ما يبدو هي “لا طرائق” فلكل قصيدة طريقتها التي تبتنيها لحظتها الخاصة ويقتضيها عالمها المنبعث انبعاثا داخليا ذاتيا بإيقاعه المتشكل بواسطة عناصره المكونة وكيفية انتظامها وحسب علاقتها بالذات داخل القصيدة والحالة أو الرؤية التي تعبر عنها.
غير أن اعتماد هذا التصنيف الثنائي والحكم بأن النمط الثاني غالب على قصائد سنيا الفرجاني عمل لا يخلو من تسرع وتعسف على هذا الديوان، فزيادة على ما يقتضيه هذا التصنيف والحكم من تحليل معمق ومقارن لجميع قصائد الديوان- وهو عمل لا يتسع له هذا البحث- فإنه ليس من السهل أن نتبين بوضوح ويقين إذا كانت القصيدة تنتمي إلى النوع الصوري المنظم أو إلى النوع الإشراقي الفوضوي الخلاق، هذا فضلا عما في مصطلحات من قبيل “قصيدة دورية” أو “صورية” و”تنظيم فني” و”قصيدة-إشراق” و”فوضى خلاقة”…الخ من غموض ولبس. ويمكن أن يدعم هذا الفهمَ الذي نقارب به قصائد الديوان ما يذهب إليه ميشيل أوتان في أن النص يتمحور دائما حول قطبين:
– مواضع اليقين أو الوضوح التي تمنح القارئ طمأنينة ويستند إليها في التأويل وتمثل منطلقات قراءة. وأبرز علاماتها: وجوه بلاغية مألوفة (جناس- طباق- تشبيه…)- علاقات تشابه- التكرار والمترادفات- توزيع تيمات- النظام المنطقي-الزمني- روابط الانسجام والاتساق…الخ.
– مواضع الشك أو الغموض التي تضع القارئ في موقف حرج وتمنحه حرية وتدعوه إلى التدخل والتأويل. وهذه المناطق “المظلمة” هي التي تتيح الظهور لمكامن النص المتعددة واختلاف التأويلات. وأبرز علاماتها: فراغات- انقطاعات- رموز مبهمة- تداعيات ملغزة- تراكيب ملتبسة- مفارقات وتعارضات…الخ[vi].
وانطلاقا من هذه الاعتبارات أوصلنا النظر في شعرية قصائد الديوان خارج شعرية الانزياح إلى الوقوع على منطقة خاصة حرة تخرج عن شعرية النظم التي نظّر لها جون كوهين دون أن تسقط في شعرية النثر التي نظّرت له سوزان برنار أي دون أن تكون قصيدة شعر حسب تصور الأول وقصيدة نثر حسب تصور الثانية، أي ليست بالضرورة قصيدة- صورة أو قصيدة-إشراق. إن المنطقة التي تشتغل قصيدة الفرجاني على بناء شعريتها المخصوصة هي منطقة وسطى واقعة أو جامعة بين النمطين، يمكن تسميتها بقصيدة الصورة-الإشراق أو قصيدة التنظيم-الفوضى، وإن كانت تسميات لا تخلو من تناقض غير أن هذا التعارض أو التوتر أو الصراع بين نزعتي التنظيم والفوضى أو الشعري والنثري، أو الانغلاق والإشراق…الخ هو بالذات مشروع الكتابة الجوهري لدى سنيا الفرجاني والمنطقة الخاصة التي تتحرك في إطارها قصائد الديوان وتسعى إلى تأسيس شعريتها المختلفة انطلاقا منها[vii]. وفي هذا الإطار المزدوج الجامع بين الصورة والإشراق أو بين التنظيم الفني والفوضى الخلاقة تتنزل أغلب نصوص الديوان. ويكفي أن نأخذ من ديوانها قصيدةً للدلالة على هذه الشعرية المزدوجة ولتكن قصيدة “الأفعى الخائفة” التي اعتمدناها في الجزء الأول من البحث شاهدة على شعرية الانزياح لتكون هنا في الآن نفسه شاهدة على انزياح الشعرية:
الأفعى خائفة…تضع رأسها بين فخذيْ ديك مريض
وتحاول أن تنام
الجدة…عادت من جنازتها
لغرفتها
لبست ستائر النافذة الصغيرة
وجلست بلا خوف…تسرّح ضفيرتها.
في غرفة الحمام حوض واسع
فيه نملة مذعورة…يحاصرها طفل الخامسة…بمقبض فرشاة
أسنان.
عند الجارة…الوقت ضيق
لا يكفيها لجمع العشب عشاء لقطيع الخرفان
فوق السطح…قشرة طلاء قديم
يكاد يسقطها الخريف
فتلصقها حمامة جاعت فتداعت إلى الحائط.
مكنسة واقفة تحت شجرة ليمون في الفِناء
حولها عناكب تخيط أحوال روحي
فتثقل
وتقع…………..كجُرْم
ترتعب الأفعى والجدة
الغرفة والستارة
الطفل والنملة
العشب والجارة
السطح والقشرة
الخريف والنملة
الفِناء والمكنسة
الخيط و”العناكب” ” ويرتعب قلبي في قفص من عظم ولحم[viii].
تتكون هذه القصيدة من مقطعين مختلفين ينتمي كل مقطع منهما إلى نمط خاص من نمطي قصيدة النثر اللتين ميزتهما سوزان برنار على النحو التالي:
* المقطع الأول (س 1- س 18): يمثل النمط الأول من قصيدة النثر وهو قصيدة الإشراق أو الفوضى الخلاقة حسب مصطلحات سوزان برنار ومواضع الشك ومناطق الغموض حسب مصطلحات ميشيل أوتان. وتتمثل هذه المواضع في العلامات التالية:
– الانقطاعات بين المشاهد المشكلة أو الأفعال المحكية حيث يتكون المقطع من مشاهد- لوحات منفصلة عن بعضها البعض ولا يربطها أي رابط لغوي (غياب أدوات الربط) أو معنوي (غياب الروابط السببية أو المكانية أو الزمانية) وهذه المشاهد-اللوحات تبدو متداعية تداعيا حرا أو “فوضويا” في شكل رؤى أو أحلام لا منطق لها أو رابط بينها على النحو التالي:
* أفعى خائفة نائمة بين فخذي ديك مريض (1-2)
* عجوز عائدة من جنازة تسرح ضفيرتها بستائر الغرفة (3-6)
* نملة مذعورة يحاصرها طفل بفرشاة أسنان (7-9)
* جارة تجمع عشبا لخرفان (10-11)
* قشرة متداعية وحمامة جائعة (12-14)
* مكنسة واقفة تحت الشجرة (15)
* عناكب تخيط أحوال الروح وتسقط (16-18)
– المفارقات والمقابلات:
* الجدة عائدة ≠ من جنازتها
* الجدة ≠ تسرح ضفيرتها
* الأفعى خائفة ≠ الجدة بلا خوف
* يسقطها ≠ تلصقها
* واقفة ≠ تقع
– مواضع الغموض الناشئة عن:
* الفراغات: كثرة النقاط المتتالية
* الرموز المبهمة: سواء كانت رموزا بشرية (الجدة- الجارة- الطفل- الأنا) أو حيوانية (الأفعى- الديك- النملة- الخرفان- الحمامة- العناكب) أو رموزا شيئية مكانية (الغرفة- الستائر- الضفيرة- الفرشاة- العشب- الشجرة- القشرة- الحائط- المكنسة…) أو معنوية (الجنازة- الخوف- الوقت- الذعر- الجوع- الروح…).
* تراكيب ملتبسة بسبب غموض الإضافة في “جنازتها” (هل هي إضافة حقيقية بمعنى جنازتها هي أَم إضافة معنوية بمعنى جنازة بعض أهلها) أو بسبب غموض الإحالة في الضمير أو غموض الإسناد مثل “تداعت” (هل الفعل مسند إلى القشرة أم إلى الحمامة) و”تثقل” و”تقع” (هل الفعلان مسندان إلى المكنسة أم إلى العناكب أم إلى أحوال الروح؟).
* غموض العلاقة الاستعارية في “عناكب تخيط أحوال روحي” (كيف تخاط أحوال الروح؟ وما علاقة الأنا بالعنكبوت…؟) والعلاقة التشبيهية في “تثقل وتقع كجرم” (إضافة إلى غموض العلاقة الإسنادية الذي ينطبق على العلاقة التشبيهية لأننا لا نعلم يقينا ما هو المشبه، هناك غموض في وجه الشبه إذ لا نعرف أن الجرم يقع بل يرتكب أو يكفر عنه بل إننا لا نعرف هل وجه الشبه هو الوقوع وحده أم الثقل والوقوع معا).
* التداخل بين الواقعي والسريالي أو العجائبي سواء بالمجاورة بين مشاهد واقعية وأخرى سريالية أو بالجمع والتركيب في نفس المشهد بين معطى واقعي وآخر سريالي بما يشكل أحداثا عجائبية بمفهوم تودروف حيث يجد القارئ نفسه حائرا ومترددا بين العالمين لا يعرف أتتحدث الشاعرة (أو المتكلم) عن وقائع عجيبة تَحْدُث في الواقع أم تتخيل وقائع عجيبة مفارقة للواقع:
اللوحات الواقعية
اللوحات العجائبية- السريالية
– النملة والطفل
– الجارة والعشب
– القشرة والحمامة
– المكنسة والعناكب
– الأفعى الخائفة والديك المريض
– الجدة العائدة من جنازتها/ لابسة الستائر…
– العناكب خائطة أحوال الروح واقعة كجرم
* المقطع الثاني (س 19- س 26): يمثل النمط الثاني وهو القصيدة-الصورة أو التنظيم الفني حسب مصطلحات سوزان برنار ومواضع اليقين أو مناطق الوضوح حسب مصطلحات ميشيل أوتان. ويتحقق هذا النمط بالوسائل التالية:
-العناصر المحققة للترابط والوحدة انسجاما واتساقا وذلك بإجمال ما جاء مفصلا وتنظيم ما جاء مشتتا منقطعا في بنية ثنائية أو أزواج: الأفعى/الجدة- الغرفة/الستارة- الطفل/النملة- العشب/الجارة…الخ.
-اعتماد الروابط اللغوية استئنافا (ترتعب… ويرتعب…) وعطفا (الأفعى والجدة، الغرفة والستارة…)
– التكرار: تكرار التركيب العطفي، تكرار فعل “ترتعب”.
– الترابط بين العناصر: يجمع بين الترابط اللغوي والترابط المعنوي نفسيا في اشتراك العناصر كلها في فعل/حالة “الارتعاب” (علاقة تشابه) ومكانيا في التجاور (علاقة كناية): الغرفة/الستارة- السطح/القشرة- الفناء/المكنسة- الخيط/العناكب- عظم/لحم…
– الوجوه البلاغية ازدواجا (الثنائيات) وجناسا (عظم/لحم- يرتعب/قلبي) ومجازا (ترتعب) واستعارة (قلبي في قفص) وإيقاعا (الترديد التركيبي- القافية في التاء وفي الستارة/الجارة)…
ولا شك في أن هذا الازدواج الذي يجعل القصيدة موزعة على محورين أو موضعين لا يأتي غالبا بالوضوح والتباين اللذين ميزا القصيدة السابقة، فكثيرا ما يكون المحوران أو النمطان متداخلين وملتبسين إلى درجة يصعب معها تمييز مواضع اليقين والوضوح ومواضع الشك والغموض وبالتالي تمييز النمط الصوري التنظيمي والنمط الإشراقي الخلاق. ولكن هذا الازدواج مهما تكن طريقة حضوره في قصائد الديوان يعتبر في النظريات الشعرية ما بعد النظرية الانزياحية- إن صحت التسمية- مقوما أساسيا للقصيدة ومولدا حاسما لشعريتها، ونجد هذا التصور لدى يوري لوتمان حيث يذهب إلى أن الشعر يقوم على التناوب بين العشوائي والمنتظم وأن القصيدة منتظمة وغير قابلة للتنبؤ في الوقت نفسه فهي نظام من القواعد ونظام من انتهاكها على حد سواء تؤسس التعادلات ولكنها تؤسس أيضا الاختلافات. وتكمن القيمة الشعرية في التلاعب المتواصل بالاختلاف والهوية والقصائد الجيدة هي التي توازن بين المتوقع والتخريبي، بين النظام وانتهاك النظام في حين أن القصائد السيئة هي التي تكون إما قابلة للتنبؤ بشكل مفرط أو عشوائية بشكل مفرط[ix]. ولا شك في أن أكثر قصائد الديوان- متى أمعنا فيها النظر- لا تخلو من التناوب بين المنتظم وغير المتوقع، أو بين النظام وانتهاك النظام، غير أن ما يمكن أن نخلص إليه من النظر في هذا المستوى الأول من انزياح الشعرية- وهو المستوى الإيقاعي- هو أن التوازن مختل وحجم الانتهاكات أكثر من حجم الانتظامات، والنثري غالب على الشعري. وهذا يعني أن سنيا الفرجاني في تلاعبها المتواصل بالاختلاف والانتظام لا تبدو حريصة على تحقيق التوازن بين النظام وانتهاك النظام الذي اعتبره لوتمان من مقومات القصيدة الجيدة، فإذا كان من المؤكد أن قصائدها غير قابلة للتنبؤ بشكل مفرط فهل تكون عشوائية وتخريبية بشكل مفرط حين نزعت نحو تقليص عناصر الوزن والانتظام إلى أقصى حد، والتخلي أكثر ما يمكن عن الانزياحات الصوتية أو الوزنية؟ وهل يمكن تفسير هذه النزعة المضادة للشعرية بالمفهوم الانزياحي الكوهيني بمجرد الرغبة في التحرر من ضوابط القصيدة الموزونة والتخلص من أعباء الوزن وإكراهاته الشكلية للتفرغ للشاغل الدلالي الأهم؟
يمكننا في الواقع أن نعثر على إجابات عن هذه الأسئلة بالاستناد إلى التفسير الذاتي أو النفسي الذي يعود بنا إلى ما فتئت الشاعرة تردده وهو بحثها عن قصيدتها الخاصة ورفضها لكل الأشكال الشعرية الجاهزة والمقيدة لحريتها، ونزعتها التجريبية والاستكشافية في حين أن الوزن انتظام وتكرار والتكرار حسب فرويد يعكس التراخي الطبيعي للنفس الذي ترفضه الشاعرة. كما يمكننا أن نفهم نزعتها هذه في السياق الحداثي الذي بدأ فيه الشعراء بالتخلي عن الوزن والقافية لأنهم يشعرون بأن الحياة الحديثة لم تعد حاستها الأساسية هي السمع بل النظر فضلا عن اعتبار الوزن والقافية في نظر الشاعر المعاصر نوعا من الانسجام الكاذب والزائف. ويمكننا أخيرا أن نعلل ذلك بالتمييز بين الإيقاع والوزن لندرك أن الشاعرة ترفض الوزن لا الإيقاع: الوزن هو نمط منتظم من المقاطع الصوتية أما الإيقاع فهو أقل انتماء إلى الشكل فهو يعني التأرجح غير المنتظم في الشعر وتدفقه وتموجاته حين يتبع انثناءات صوت المتكلم كما يذهب إلى ذلك تيري إيجلتون[x]، وضمن هذا المفهوم الواسع للإيقاع نذكر حديث الوهايبي عن الإيقاع البصري أو المكاني.
من المؤكد أن هذه التفسيرات المختلفة لا يمكن أن تنفي أو تخفي هذه النزعة النثرية المتعمدة والجامحة التي تجعل القصيدة- إن صحت تسميتها بالقصيدة- هاربة من الشعرية موغلة في النثرية وتؤكد بالتالي أنها تشتغل ضمن استراتيجية مضادة لشعرية الانزياح مكتفية بما سماه كوهين بالقصيدة الدلالية فتبدو لبعض النقاد شعرية منقوصة أو متقلصة وإن كانت لا تخرج عن الحداثة الشعرية بل سوغت للبعض عدها قصيد ة ما بعد حداثية أو ما بعد قصيدة النثر. وليس المشكل في ربط قصائد سنيا الفرجاني بما بعد الحداثة أو ما بعد قصيدة النثر وإنما المشكل في ربط هذه القصائد بنوع مخصوص وصادم من الشعرية اصطلح عليه ب”شعرية المبتذَل”. فكيف يمكن “للمبتذل” أن يكون شعريا أو كيف يمكن للشعر أن يكون “مبتذلا”؟ وما علاقة النثرية بهذه الشعرية؟ وإلى أي حد يمكن إدراج قصائد هذه المجموعة ضمن “شعرية المبتذل”؟
[i] جون كوهين: بنية اللغة الشعرية، ص 11-13.
[ii] رفضت الشاعرة تسمية قصيدة النثر قائلة: “قصيدة النثر تسمية أرفضها ولا أحب الخوض في كل ما يتعلق بهذا التبويب الذي أراه مغلوطا يصيب القصيدة الحديثة في العظم ويشوّهها ويجعل بينها وبين الشعر فجوة عملاقة.التسمية أساءت لهذا النمط الحديث من الكتابة وجعلته في بؤرة صراع مقيت يفتعله الناس بين الشعر وبينها بنعتها باللا شعر”. ضمن موقع كليك برس https://clicktopress.com/ بتاريخ 22/02/2020.
[iii] ضمن موقع كليك برس https://clicktopress.com/ بتاريخ 22/02/2020.
[iv] المرجع نفسه.
[v] سوزان برنار: جمالية قصيدة النثر، تر. زهير مجيد مغامس، بغداد، د ت، ص 21.
[vi] ميشيل أوتان: سيميائية القراءة، ضمن: آفاق التناصية المفهوم والمنظور (جماعي)، تر. محمد خير البقاعي، بيروت، 2013، ص 198-202.
[vii] عبرت الشاعرة عن وعي بهذه المنطقة الشعرية المزدوجة وعلى بحثها عن تأسيس مشروع الكتابة في هذا العالم المتوتر بالذات في نصوص شعرية ونثرية عديدة منها قولها شعرا:
هذا الشِّعرُ لا يلتئم،
جرحٌ صغيرٌ يتّسعُ ويضيق،
كبُنٍّ منثورٍ يبدِّده الهواءٌ مرَّةً،
وكثيراً أجمعه…

هذا الشِّعرُ خميرةٌ
طحينٌ وماءْ (من قصيدة “سكوت الكناري”، ديوان فساتين الغيب المزررة)
وتقول نثرا: “ما زلت أكابد المسافة بين المزمار والجزار، وبين اللغة والغلّة” (من نص “أنا شاعرة لا تثق بنصها”، منشور ضمن تدوينة على صفحتها بالفايسبوك).
[viii] المصدر نفسه، ص 78-79.
[ix] تيري إيغلتون: كيف نقرأ القصيدة، تر. باسم المسالمة، دمشق 2018، ص96-97.
[x] المرجع السابق، ص 236.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *