انهض أيها البطل وامض في طريق اللارجوع
ها هو يغيب.. ها هو يغيب في حضن الأرض
سيغمر أرض الأموات بالخيرات العميمة
امض أيها البطل إلى الأرض البعيدة خلف مدى الأبصار
هبط “دموزي” إلى العالم السفلي بعدما كانت “إنانا” فيه، فدفعت الجنَّ لحمله بديلا عنها لتخرج، لأن القوانين تشترط عليها إرسال من يحلّ مكانها، ليصبح مآل “دموزي” في الأسطورة السومرية؛ الموت، أما في البابلية فتستطيع “إنانا” إنقاذه
تقول الأسطورة عند السومريين إن روح “دموزي” تصعد بعد الموت، فيبدأ الإنبات وتنفجر الخضرة في الأرض، وتنبت المزروعات وتزهر الأغصان]. الربيع يمثل القيامة وعودة الروح والحياة، لذلك كان الاحتفال بعيد أكيتو عند السومريين بالإنبات والاخضرار من روح “دموزي” التي أقبلت بالربيع. أما عند البابليين فاحتفالا بنجاته وحلول الربيع، فطقوس الفلاحة والزراعة وحفر الأرض التي كانت تُمارس ثم بذر القمح؛ ترمز إلى الحياة والمآلات التي تسير فيها حتى يكون البعث مرة أخرى عندما ينمو القمح.
هذه الاحتفالات بعيد أكيتو لا تزال مستمرة حتى اليوم بناء على أقدم عيد مسجل في التاريخ، إذ حلّ في الأول من أبريل/نيسان 2022 عيد أكيتو الـ6771.
“أكيتي”.. طقس استجلاب الغيث
عندما يتأخر المطر يلجأ البشر إلى الدعاء والاستسقاء، فالشعوب القديمة كانت تتضرع إلى الآلهة مستغيثة مستعينة بطقوس تعتبرها مساعِدة لها في استجلاب الغيث، لذا كان السومريون يستنجدون بطقس “أكيتي” الذي تؤدي فيه أربع نساء عاريات رقصة دائرية لاستسقاء المطر، فتنثر كل واحدة شعرها إلى جهة من الجهات الأربع، مع ثماني عقارب كأنها في حركة دائرية، كما أن نثر الشعر يدل على تحريك الهواء لجلب الغيوم الممطرة . تنثر النساء شعورهن في كل جهة من الجهات الأربع لتتمكن من جلب الهواء الممطر من كل جهة، ووجود العقارب حول النساء يدل على انقطاع المطر والجفاف، فهي مخلوقات صحراوية تعيش في أجواء حارة.
كلمة أكيتي (طقس الاستسقاء) جذر أكيتو (عيد رأس السنة)، كما أن طقس أكيتي هو أصل طقوس أكيتو، وقد حاول خزعل الماجدي تفسير العلاقة بينهما عندما حلل كلمة “أكيتو”، وذلك بأن “أ” تعني الماء، و”كي” تعني الأرض، و”تي” بمعنى يقترب وذلك يعني تقريب الماء من الأرض بلا استسلام، كما أن للكلمة معاني أخرى منها بذر القمح.
“أكيتو”.. متى يُحتفل به؟
يحتفل السومريون بعيد أكيتو في 21 مارس/آذار من كل عام، ليكون بداية التقويم السنوي لديهم, وفرحا بالاخضرار والإنبات الناجمين عن روح “دموزي”، والفرح بقدوم الربيع والقيامة الجديدة للحياة بالإنبات والإخصاب بعد الشتاء. لكنّ الأكاديين والبابليين والآشوريين يحتفلون بهذا العيد في بداية شهر أبريل/نيسان، حيث بداية التقويم السنوي عند الساميين عموما، وكان يستمر 12 يوماً؛ هي الفارق بين السنة القمرية والشمسية، حيث يُردم فارق الهوة بين التاريخين ويُعاد التوازن للكون
يتبين من الرُّقُم الفخارية المكتشفة في العراق أن العيد كان موجوداً في العراق قبل الكتابة المسمارية وأن الاحتفالات في زمن سلالة “أور” بهذا العيد كانت تحدث مرتين في السنة؛ الأولى في الشهر السادس، والثانية في شهر حصاد الشعير الذي يصادف الشهر الثاني عشر (مارس/آذار – أبريل/نيسان)، ونادراً في الشهر الأول في السنة.
أما البابليون فقد دمجوا العيدين وصاروا يحتفلون بعيد أكيتو في فصل الربيع فقط، حتى أمست الاحتفالات بهذا العيد والطقوس المرافقة لها أصلاً لكل الأعياد الربيعية المشتقة منه كالنيروز، وأعياد الإيزيديين في نيسان، والأعياد اليهودية والأوغاريتية
أسطورة إذلال الملك
يحظى عيد أكيتو بأهمية سياسية اجتماعية في المجتمع البابلي الآشوري، فلم يكن عيدا دينيا فقط، لأن الطقوس تتضمن تجديد حكم الملك والكاهن الأكبر، وإبداء خضوعهما للإله الذي ينعم بالقرابين والناس بالمآدب، إذ تبدأ الطقوس قبل طلوع الشمس، أي عندما يكون الظلام مخيما، فيتلو الكهنة فيه الصلوات، كما تُتلى قصة الخليقة البابلية “إينوما إيليش” (أي: عندما في الأعالي)، وكان الادهان بالزيت من الطقوس الرئيسية، كما تُقدم الأضاحي فيه للآلهة “إنانا” (ولاحقاً للآلهة المعادلة لها عند كل شعب)، ويُحرق البخور لطرد الأرواح الشريرة، ويلجأ الناس إلى الحزن والطهارة والاستغفار والتكفير عن الذنوب.
أما الملك فكان يسير في موكب محاطا بالعظمة والأبهة من أجل إثارة المشاعر الدينية، وتذكير الناس بأنه ممثل الله على الأرض، و استعدادا لنقل الصلاحيات وتجديدها. وعند البابليين كان طقس إذلال الملك ذا مهابة وإجلال، وذلك بتجريده من منصبه وسلطاته حتى يعيدهما الكاهن الأكبر إليه مرة أخرى بأمر من الإله “مردوخ” لاستثارة المشاعر والعواطف، وليستمد الملك سلطته الدينية منه، معتمدا على الأيديولوجيا لدى العامة، فيظهر أمام الناس بأنه الحاكم الأوحد بأمر من الإله، فقد كان للأسطورة تأثير كبير في حياة الشعوب القديمة وبنوا عليها معتقداتهم، وصاغوا الملاحم لتفسير كل ما هو غامض حولهم.
طقوس الخصوبة
بما أن أكيتو هو عيد الفرح بالربيع، فلا بدّ من أداء طقوس ترمز إلى الخصوبة ونبات الأرض، وذلك عبر إيحاءات وحركات ورموز يستعملونها، وتمثيليات درامية توحي بالقيامة وتُجسد إستراتيجيات الزراعة، كما يخرج أصحاب المهن والحرف بمواكب ضخمة حاملين تماثيل الآلهة وما يصنعونه ويطوفون بها شوارع المدينة، وفي النهاية تُعاد تماثيل الآلهة إلى معابدها، وتُعطى البركة للملك والشعب من الإله إن هذه الطقوس تشبه المهرجانات والكرنفالات في عصرنا الحالي، ولا سيما المهرجانات التي تجوب الشوارع
وما زال المحتفلون بعيد أكيتو في عصرنا الحالي يمارسون طقوساً شبيهة بالطقوس القديمة، وإن كانت بنوع من العصرنة والتحديث، فيتجمعون في الساحات يؤدون عروضا راقصة وأغاني فلكلورية، مرتدين أزياء شعبية مزركشة، أو يخرجون إلى الطبيعة المزهرة والمخضرة ببراعمها الوليدة التي توحي بالبعث بعد فترة من الموت القسري تحت وطأة الشتاء، ومنهم من يتوجه إلى الكنائس لتأدية الصلوات والقداديس.