ما الوقت ؟
—-
الوقتُ..
راع مُسن
يهشُّ على الأعمار
بعصاه !
—-
عنوان القصيدة سؤال عليه علامة استفهام، جاء كذلك ليلفت انتباه القارئ، و يحثه على تفتيش الجواب الخفي بين تلك الكلمات القليلة جدا، التي تخزّن في تراكيبها المتناسقة بإحكام، المُهندسة بحنكة عالية الجودة، معنى الوقت بأسلوب إيحائي، بالتلميح دون التصريح، باللف و الدوران حول المعنى العميق بِبُعده الفلسفي.
منذ سالف الأوان، المفكرون و الفلاسفة، ينقبون عن معنى الوقت، فكان في ذلك اختلافا كبيرا، وَلّد نظرات عديدة، و رؤى مختلفة. حتى العِلم حاول تفسير معنى الوقت بربطه بالدوران الدقيق المذهل، لكوكب الأرض حول محوره و حول الشمس، ليشعر الإنسان بالوقت و مروره، بأبعاده الثلاثة ( الماضي الحاضر و المستقبل ) و أثاره على نفسه و حياته.فالوقت مرتبط بحركة كوكب الأرض ارتباط متين. الإنسان في الفضاء يفقد الشعور بالوقت و المكان، هكذا ندرك معنى نسبية الزمن.
دون أن تدخلنا الشاعرة في متاهة هذه التعريفات، فضّلت أن تختصر لنا معنى الوقت من وجهة نظرها، بكلمات خفيفات على اللسان، ثقيلات في ميزان المعنى، في قالب شعري وامض، باستعمال تشبيه بليغ غاية في الروعة و الجمال، لترسم في خيال القارئ ذلك المعنى العميق بألوانها الإبداعية، محاولة مغازلة ذوقه المتعطش، بربطها لمفهوم الوقت بمشاعر و إحساس الإنسان و مدى تأثره به، و تأثِيره عليه.
لهذا نجدها تشبه الوقت بالراعي الحكيم، صاحب الشَعر الأبيض، محدّب الظهر، بجبهة خرّقتها تجاعيد الزمن، كل هذه الأوصاف مختزلة في كلمة ( مُسن ) توحي أن مرور الوقت السريع بما يحمل، يورّثنا الحِكم و العِبر للحاضر و المستقبل، لكل إنسان واعي، ينشد التغيير من حسن إلى أحسن، و يغتنم تلك الفرص الذهبية التي لن تعود، لأن ذلك الراعي المسن يهش على أعمار الناس بعصاه، كما يهش على أغنامه مشيرا لها بالتوجه ذات اليمين أو ذات الشِمال، أو ربما مشيرا بضربها بالتالي عقابها، كذلك يهش الزمن على أعمارنا و كأنه يأكلها ظُلما، يلتهمها عدوانا، يشعر الإنسان أن عمره طويل قد مرّ فوق هذه الأرض كلمح البصر، بالأمس القريب كان صبيا، و اليوم يرى الشيب يغزو شعره الأسود.
نلمس هاجس الشاعرة، و هي تصف أدق مشاعرها، و عمق حيرتها في كيفية انفلات سنوات عمرها المقدرة لها، كيف يسرق الزمن سنوات حياتها، و هي مكتفة الأيدي خلف ظهرها، لا حول و لا قوة لها. رغم ذلك تجتهد و تحاول أن تجد طريقة تحررها من سطوة الوقت عليها، و جبروته على مشاعرها، محاولة فصلها عن الإحساس بالوقت، أن تجعلها ايجابية مملوءة بالعاطفة الحية، التي تحلّق بها في سماء السعادة. ما دام آخرتها كفن و حُفرة، فلتعش حياة سعيدة على قدر استطاعتها و قدرتها، فلتسعى إلى ذلك بكل ما أوتيت من قوة و عزم.
أفضل طريقة لذلك، أن يحي الإنسان اللحظات الحاضرة بكل قوة مشاعره الإيجابية، لأنها بعد لحظة قصيرة جدا ستصير من الماضي و تخزّن في صندوق الذاكرة، و لا يجتر الماضي الحزين، لأنه سيعود معبأ بكل تلك المشاعر السلبية، التي ستلوث حاضره الجميل الرقيق، و لا يفكر كثيرا في المستقبل البعيد جدا، لأنه غيب بالنسبة له، و لم يُولد بعد، لأن أكيد الرؤية ستكون غير واضحة و مضببة، بالتالي تخلق فيه مشاعر سلبية. نلاحظ الترابط الوثيق بين الوقت و الإحساس، أو الإحساس بالوقت و مدى مفعوله على وجداننا، بهذه الطريقة يقع الإنسان في تلك الدائرة المغلقة، بما تحمله من عاطفة مؤلمة جدا، تنخره في الأعماق على نار هادئة.
نلمس تلك الفلسفة أو تلك الرياضة الفكرية، التي يتدرب عليها الإنسان للفرار من ثقل و تأثير الوقت عليه، فتغيير الفكرة أكيد يتبعها تغيير في العاطفة، و يحاول دائما أن يجعلها من السلبي إلى الإيجابي. يغتنم بكل طاقته العاطفية اللحظة الخاصرة و كأنها لن تنتهي، يملؤها بكل ما يسعده و يفرحه، بكل الوسائل المتاحة لديه، و كأن الوقت عنده بُعد واحد فقط، يدرّب فكره على هذه الفلسفة البسيطة إلى أن تصير عادة متأصل فيه، و بمثابة علاج من حيرة فرار الوقت المحيّرة. الوقت كرمل جاف يسقط من بين أنامل قبضة يد مغلقة، البقاء مع الحبيب ساعة تمر كأنها دقيقة، و المكوث لدقيقة واحدة مع مَن نبغض تمر كأنها ساعات.
فهل يستطيع الإنسان فصل مشاعره عن الوقت الأهوج الجافل؟ أن يكون محايدا بلا عاطفة نحوه؟ لا سلبي و لا ايجابي، خاصة عندما يشعر في بعض الأحيان أن الوقت عبارة عن خُدعة أو نوع من الوهم، كأنه يلعب بمشاعره، يكويه بها تارة، و يجعلها كالجليد تارة أخرى.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *